ليلى عماشا
شهداء، منهم من قضى فعرفنا له اسمًا ساطعًا ووجهًا يستمزج كل شموس الكون وألق التراب الطاهر المطهّر، ومنهم من ينتظر، يحتجب خلف النور وينسج من روحه حلقات ذكر ثوريّ وقتال، نحيا في حماها، علمنا بذلك أم لم نعلم.
أحياء، واسألوا عن حياتهم وحيائهم عمادًا ومن عرَف العماد. سيماه في وجوههم كلّهم، وجميعهم من أولي عزمه الأمتن، وقلبه الأحنّ، وعقله الأجمل. جميعهم في الميدان بعضٌ منه، وفي السماوات جمعهم وجه الرضوان.
أحياء، وانظروا وجه صلاح غندور وهو يشدّ الرّحال إلى نصره محرّرًا يهزم أسر الجسد ببسمتين تنفجران بقافلة، ووجه علي أشمر وهو يحكي عن الرّوح وما فيها، قبل أن "ينعف" في أرواحنا حبًّا ليس يُدرك بغير دم وشهادة.
أحياء، وتشهدُ الروح التوأم المتكاملة بين حسن زبيب وياسر ضاهر، أصغوا إليها، لم تزل تحكي بكلّ لغات أهل الحبّ حكاية أن تحيا شهيدًا فلا تموت. وضحكة مهدي ياغي تشهد، انظروها تهطل على تراب القلوب كأنّها المطر، واسمعوها كتنزيل آيات الفطرة والحياء، تلقّن الأعمار كلمات سرّها إلى سدرة الجمال الأعظم.
أحياء، بل هم الأحياء، وعينا مريم الشاهدتان ما زالتا تضيئان على شرفة الاستشهاد، كي تحكي لهاجر الصغيرة كيف يبدو النور إذا نُظر النّور من السماء.
أحياء، فاذكروهم اسمًا اسمًا، واذكروا مع كل اسم وردة نبتت في صحراء حوَت أسرار الاشتباك، أو حقل قمح عند الحدود انحنت سنابله أكثر لتقبّل أثر عبورهم في التراب. اهمسوا بأسمائهم على مهل، كمن بذكر أحبّة الله يلامس قلبه كي يطمئن. ارتشفوا صوت حروفها فقد كادت تكون تلاوات تخفّت بين سطور الكتاب، يحرسها جبريل من عين الحسّاد والجاهلين. اختاروا من بينها من تكرّرون ذكره على مسامع أطفالكم، ليصير لكل طفل صديق شهيد، يتعلّم منه ثقافة الحياة ويستقوي به على زيف الدنيا وأشرارها.
امسحوا وجه صباحاتكم بما تيسّر من ماء ورد أصواتهم، ولفّوا برد أمسياتكم بصورهم. ضعوا حبّات من ندى عبورهم في أحاديثكم اليومية، وسوّروا أيّامكم بذكرهم، بضحكاتهم، بدمعهم، برقّتهم، بسحرهم، بلون الصدق اللًماع في حياء أعينهم، بملمس اليقين النقيّ الحاضر في لفتاتهم. اقتربوا منهم في كلّ فرح أكثر، في كلّ عزّة ولو مخضّبة بحنّاء الفقد، وتقرّبوا بهم من ربّ أحبّهم، في كلّ حزنٍ، في كلّ همّ.
عيشوا بينهم، فلا حياة فينا لولا أنّهم يحيون بيننا، ولا تغضّوا عن حضورهم أبصاركم، فهم هنا، وبهم يتلطّف ربّهم على أيامنا، فيسمح لنا أن ندسّ قلوبنا بينهم، عسى ننال من دفء وصلنا بهم ما يعيننا على الأيام وعلينا.
أحياء، فارفعوا في يوم الشهيد، شهيد حزب الله، صوتكم بكلماتهم، ودمعكم بضحكاتهم، وعصباتكم الحافظة رائحة العرق المغبرّ على جبينهم، وراياتكم الحاملة آخر صيحاتهم في الإيثار وفي الولاية والولاء.
قولوا لهم، وهم العارفون، أنّا في حمى عرفانهم لا يدركنا تيه ولا نخشى فقد اليقين وضياع الهوية. تعلّموا منهم، وهم أهل الطريقة، بتتبّع أثر خطواتهم كي تتضح الدرب، وآمنوا أنّ الانتماء لعطرهم علامة الوصول.
لسنا نحيي يوم الشهيد، هو يحيينا. شهداؤنا أحياء، نجتمع حول صورهم وأسمائهم في يوم الشهيد لأجلنا، وليس لأجلهم. نرصّ قلوبنا أواني متلاصقة في يومهم، عسى تنال أن تحوي قطرة من ندى حضورهم فتبتلّ حبًّا ودمعًا ويقينا. نهيل أرواحنا ترابًا يفترش دروب مرورهم، عسى يصل شيء من غبارنا إلى طهرِ نعالهم. نتحلّق حول ذكرهم كما أطفال استفاقوا على فزع، كي نسكّن روعَنا بأمانهم. نحمّلهم شوقنا إليهم، وحزننا علينا، ونسقي يباس أيامنا من دمعهم المشفق على تقصيرنا. نلوذ بهم، نخفي وجوهنا في دفء معاطفهم، ندسّ أسماءنا في جيوب صورهم، كي نصبح أجمل، كي نصبح أنقى، كي نستحقّ شرف إحياء يوم الشهيد.