شارل أبي نادر
في الوقت الذي كان الجميع في المنطقة وفي لبنان، ينتظر زيارة عاموس هوكشتاين على أحر من الجمر، كونه - مبدئيا- سوف ينقل رد العدو النهائي على المقترحات أو العروض اللبنانية الأخيرة لتسوية النزاع على الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، أقدمت المقاومة وبطريقة غير متوقعة، على نشر فيديو، اقل ما يقال عنه إنه صادمٌ، ولأقل من دقيقتين، تضمن مشاهد دقيقة لكامل بقعة كاريش وفيها:
1ـ صور لمنصة ادارة الحفر ولسفينتي الحفر والاستخراج
2ـ معطيات تقنية ورقمية عن إحداثياتها وعن منظومة العمل كاملة مع عدد العاملين
3ـ تحديد ونشر مسافاتها عن نقطة التصوير او نقطة التقاط هذه المعطيات.
في الواقع، ومع أهمية حدث انتظار رد هوكشتاين، كان الحدث الأساسي هو ما نشرته المقاومة عبر هذا الفيلم، حيث جاءت ردة فعل المتابعين الجديين للأمر، لتؤكد أنه لم يعد الأهم هو انتظار نتيجة اجتماع المبعوث الأميركي مع المسؤولين اللبنانيين، وذلك لمعرفة مستوى نجاح أو فشل المفاوضات غير المباشرة مع العدو، حول تقسيم مكامن وحقول الغاز المتنازع عليها، بل أصبح الأهم والذي هو في صلب دائرة الحدث، ما يمكن استخلاصه من الفيلم المنشور من أبعاد عسكرية وسياسية، ومن رسائل وفي كافة الاتجاهات والمستويات، وذلك على الشكل التالي:
في البعد العسكري، وبأقل من دقيقتين تمت معرفة كل المعطيات التقنية عن بقعة الهدف، من أحداثيات رقمية دقيقة، إلى مسافة الأهداف التي حددت بـ 90 كلم، وإلى تحديد أين تتمركز كل من سفينة الحفر أو سفينة الاستخراج أو منصة إدارة العمل، كما وظهرت الأهداف في الفيلم، محصورة داخل شبيكة الرمي التي تحدد أبعاد كل هدف (طول وعرض وارتفاع)، والتي تستعمل لاختيار نقطة الرمي على كل هدف، أو نقطة انفجار الصاروخ، حيث يكون اختيار هذه النقطة هنا اساسيا لاختيار نقاط الضعف في كل هدف، او النقاط القابلة للتفاعل أكثر من غيرها مع الانفجار، خاصة أننا نتكلم عن سفن ضخمة وبأبعاد كبيرة تتجاوز مئات الأمتار أحيانًا، فجاءت هذه المعطيات كاملة، لتشكل ملف الرمي النهائي، والذي لم يعد يحتاج الا لأمر الرمي فقط .
من جهة أخرى، ومن الناحية العسكرية، كان لافتا ما التقطته الكاميرا الحرارية لقاعدة إطلاق الصاروخ من تفاصيل واضحة، على مسافة 90 كلم، الامر الذي يفترض حكما أن هذه الكاميرا قادرة على التقاط صور بنفس الدقة وعلى مسافات أبعد، أي مسافة الرمي القصوى للصاروخ، والذي تفيد أغلب المعطيات (المتداولة إعلاميا) أن مسافة الرمي للصواريخ المتطورة والنوعية ( بر ـ بحر) الموجودة مع المقاومة، تصل لحدود 300 كلم (على الاقل)، الامر الذي يمنح حزب الله حكما، قدرة التحكم والسيطرة على كل الأهداف البحرية او الساحلية للعدو على كامل الواجهة البحرية لفلسطين المحتلة.
طبعا، جاء تزامن نشر الفيديو المذكور، وفي خضم ذروة الحراك السياسي والديبلوماسي والأمني والعسكري، ومن قبل كافة الاطراف المعنية بملف الترسيم، وبملف إنهاء تقسيم مكامن الغاز بين لبنان وفلسطين المحتلة، ليوصل أكثر من رسالة حساسة وفي أكثر من اتجاه:
اولا: رسالة للدولة اللبنانية ليكون الفيلم ومعطياته، رافعة أساسية تستند إليها لتثبيت وتقوية موقفها، وخاصة في المرحلة الأخيرة من هذا الحراك والسجال والتفاوض، وحيث ظهرت ومن خلال بعض مسؤوليها غير المسؤولين، غير مهتمة للاستفادة من هذا الفيلم، ستكتشف وسريعا، أهمية ما سيقدمه الفيلم لها من نقاط قوة، بعد الاستماع جيدا إلى رد العدو عبر المبعوث الاميركي هوكشتاين حول الملف.
ثانيا: رسالة إلى الأميركيين، والذين اعتقدوا أن أسلوبهم الخبيث في مقاربة ملف الضغط على لبنان، بموضوع الغاز والكهرباء وتقييدات "قانون قيصر" أو العقوبات المزاجية أو غب الطلب على الدول أو الشركات، سوف يصل بهم إلى نجاح مخططهم لإرضاخ لبنان، فكانت رسالة الفيلم بجديته وبتقنيته، وبما تضمن من معطيات علمية وعسكرية، كافية للتوقف الجدي عندها، وإعادة مقاربة الموضوع بطريقة صحيحة، لتجنب مواجهة واسعة، لو اندلعت، سوف تقضي حكما على آمالهم وعلى استراتيجيتهم بايجاد بديل فوري ومعقول للغاز الروسي، يجنبهم تداعيات أزمة الغاز المرتقبة في أوروبا، وتاثيراتها السلبية على معركتهم بمواجهة روسيا في أوكرانيا.
ثالثا: وفي البعد الاخر والاخير، والذي يتجاوز ملف الغاز اليوم والخلاف مع العدو الاسرائيلي حوله، لا شك ان ما اظهره الفيديو من معطيات، وما يمكن استنتاجه منها، من قدرات وامكانيات تملكها اليوم المقاومة، وتُتّقن فن المناورة بها كما هو واضح، يشكّل رسالة جد حساسة لهذا العدو، قد يكون قادرا على فهمها جيدا وبسرعة، استنادا لمسار طويل من المواجهة مع المقاومة، حيث من المفترض انه سوف يبني عليها (رسالة الفيلم) استراتيجية مواجهة جديدة ومختلفة، تتعلق بعناصر هذا الصراع المتواصل، بينه وبين حزب الله بشكل خاص، وبينه وبين محور المقاومة بشكل عام.