ليلى عماشا - العهد
١٨ كانون الثاني. في تلك الليلة، عبرت من القنيطرة قافلة أقمار، مرّت فوق عتمنا هنا، لوّحت بالبسمات لأيامنا، ومضت.
سيّارتان وغارة، والأرضُ حدود تتوسّط ذراعي العدوّ، الصهاينة في فلسطين التي أمامهم، وفي الخلف بقعة التكفير تشتدّ لؤمًا.
سيّارتان والجولان في مرمى النظر، والقافلة موكبٌ من ضوء لا يتفكّك، ولا يزيده الانفجار إلّا سطوعًا، وحبًّا.
ليلُ الغارة أصبحَ على بيان يرفع على الأكتاف ستّة أشراف من أهل الجهاد ومن جيش العماد: محمد عيسى وجهاد مغنية وعباس حجازي ومحمد علي أبو الحسن، وغازي ضاوي وعلي ابراهيم. المكان، كلّ الأرض، والزمان ليلة نوّارة دافئة رغم صقيع كانون. وهل كان الدفء لولا الدم!؟
وصل الخبر إلى الضاحية على عجلٍ، وعلى عجلٍ تهيّأت الأبية لضمّ العائدين، لطبعِ الدمعات قبلًا على النعوش، لنثرِ الورد والقلوب فوق صور وصل أصحابها إلى السّماء. حمّل الأحبّة في الورد المنثور امتنانًا لا يُحكى، وتمتمات تخترق الزمان، تلامس حبات الرمل المفعمة بالدم الثوريّ في كربلاء، تسدلها خمارًا فوق وجه الفقد وتمضي، ويقتلها الحياء، إلى حيث جيش من شهداء سبق الآتين الآن، إلى حيث تراب يضمُّ مع الأبناء عمادًا هو أب الشهداء.
عوائل الشهداء أوّل الحضور، تتسابق إلى تبادل التبريكات، وتنتزع من ضلوعها سكين الفقد وتغرزه في عين القاتل ومن معه. أولادنا عادوا فرسانًا، علّقوا على صدورنا مجدًا فوّاحًا بالدم الحرّ الشريف. وفي الروضة، ما غاب عماد، وقف في جمعِ الآباء معهم يزّف ابنه، ويزفّ أبناءهم.
من قال الدمع يومها لم ينطق بما تعجز عن تفكيكه كلّ لجان العدوّ المتخفيّة بلباس مدنيّ؟ يومها، قال الدمع إن "كرامتنا من الله الشهادة"، وقال "نحن قوم لا ندّخر أولادنا للمستقبل"، وقال "ما رأينا إلّا جميلًا".
شهداء القنيطرة. عنوان محفور كالوشم في قلب حكاية المقاومة، ومضيء كمنارة في مسار معادلات الصراع، ومكتوب كذاكرة عن ليلة شتوية استبدلت القمر بقافلة من نور يعلو، يبلغ حواف السماء بلحظة واحدة، وينهمر برقًا معلنًا أزمنة الخير الوفير. "شهداء القنيطرة"، فصل من حكاية المقاومة العابرة للحدود ولحقول الألغام ولحسابات من أسقطوا الحقّ من حساباتهم.
١٨ كانون الثاني، يوم يعيدنا إلى ليل تسمّرنا فيه أمام الخبر، ويضعنا في محضرهم قمرًا قمرًا، وفي محضر إخوانهم من السابقين ومن اللاحقين ومن المنتظرين. يوم نجدّد فيه العهد فنرى أرواحنا وردًا يرتمي حبًّا عند صوركم، ونرى قلوبنا تستعيدُ بسماتكم كي تجيد البقاء على قيد اليقين، ونرى أيامنا تستظلُّ مواضع خطوكم بيننا وتحتمي بعطر حضوركم الآسر الذي لا يمسّه غياب.
١٨ كانون الثاني، يوم قمريّ الملامح في حكاية المقاومة الممتدة إلى ما بعد بعد الأبد.