سامر الحاج علي
على الأمل المعقود بالنصر، كانت حكاية مواجهة خطتها أيادٍ معلّقة بين الأرض والسماء عند مقدمة خطوط المواجهة، لم ترهبها "خيوط صنوبر"* سقط على مشارف بيروت، ولم توقعها "تصفية حسابات"* في حفرة الركوع والركون فاندفعت لتُسقط عناقيد الموت، وتترك الكلام لمن بدأ حفلة النار دون أن يُدرك أنه سيتحسّر لاحقاً ويعلن بلسان خيبته: لقد هزَمنا حزب الله !
تجرّع شيمون بيريز ـ رئيس حكومة الكيان آنذاك ـ مرارة الهزيمة التي لم يكن ليفكر في فصولها عندما أعطى الضوء الأخضر لجيشه لشن عملية عسكرية ضد لبنان، مُسقطاً قواعد اشتباك رُسمت بالنار في تموز 1993 بعد عدوان اسرائيلي ضد الأراضي اللبنانية تحت اسم "عملية تصفية الحساب"، حسابٌ ألزم الصهاينة عدم ضرب أهداف مدنية أو التعرض لمدنيين لبنانيين مقابل عدم قصف المقاومة الإسلامية لمستوطنات وأهداف مدنية في الأراضي المحتلة.
كل ذلك سقط بلحظة واحدة وبغطاء أمريكي. بدأت الطائرات الحربية الإسرائيلية فجر الحادي عشر من نيسان 1996 بتنفيذ غارات ضد أهداف في بعلبك وصور تبعها استهداف بالطائرات المروحية لمباني سكنية في الضاحية الجنوبية لبيروت، ولتزيد "اسرائيل" من عدوانيتها استهدفت القرى الأمامية في الجنوب والبقاع الغربي وهجّرت أهلها على وقع مجازر أظهرت بعضاً من صور إرهاب لا يمكن أن تُمحى مشهده من ذاكرة الشعوب، لتبقى أشكال الدمار معلّقة على هيئة عناقيد في صفحات هذا الوطن، ومعها صور من قضوا على طريق تحريره لا سيما في ربيع ذلك العام، شهوداً من سحمر والمنصوري والنبطية الفوقا وقانا حملوا أشلائهم ولا زالوا إلى اليوم ينتظرون القصاص العادل من عدو الله والإنسانية..
لم يترك العدو حينها أية وسيلة ضغط على الحكومة والشعب في لبنان للتخلي عن خيار المقاومة ومحاصرتها، فضرب البنى التحتية بشكل واسع من جسور وطرقات وموانئ ومحطات ضخ مياه وتوليد كهرباء وإتصالات ومشاريع زراعية وصناعية وخدماتية إضافة إلى مدارس ومبانٍ سكنية كان الحجَر الصامت فيها يُرهب كل أشكال القوة التي تبجّح فيها كيان الإحتلال طوال سنين حربه مع العرب دون أن يتلقى صفعة واحدة تكسر شوكة غطرسته. كل ذلك كان قبل أن يفكر في الدخول في مواجهة مع المقاومة الإسلامية في لبنان التي أشعلت الأرض تحت جنوده المرعوبين من الدخول في مواجهة برية مع مجاهديها، وفضّلوا أن يستخدموا الطائرات وبطاريات المدفعية والسفن الحربية في حربهم التي استباحت حرمة وسيادة أرضٍ كان ثلّة من بنيها يدافع عنها بدمه ولحمه العاري في حين كان زمرة من أبنائها يتناحرون على تصفية الحسابات وتقاسم حصص السلطة ومراكزها.
صمدت المقاومة الإسلامية في نيسان، وأمطرت كيان العدو بالكاتيوشا الذي كتب يومها مقدمة تحرير الأرض وتفكك أحلام العدو الذي اطلق عدوانه بأهداف واضحة على رأسها ضرب بنية حزب الله والمقاومة الإسلامية والقضاء على رموزها وضرب قيادتها ومراكزها إضافة إلى بيوت ومراكز عمل المقاومين وقصف بطاريات الصواريخ وتفكيكها وابعاد خطرها عن شمال فلسطين المحتلة إضافة لإيجاد شرخ بين المقاومة والشعب وبينها وبين السلطة ومؤسساتها وإبعاد لبنان عن سوريا ونظامها الممانع، والسعي من وراء كل ذلك إلى تحريك عملية التسوية في المنطقة وفقاً للشروط الصهيونية.
فشلت "إسرائيل" من تحقيق كل ما تقدم ولم تنجح إلا في ارتكاب أحد أبشع المجازر التي سجلت في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي في بلدة قانا حين استهدفت معسكراً للكتيبة الفيجية العاملة ضمن قوات الطوارئ الدولية كان قد لجأ إليه مئات الأهالي الجنوبيين هرباً من عدوانية "اسرائيل". وتفننت برسم صور مجزرة إسعاف المنصوري التي كان لاحقتها مروحية صهيونية وقضت على من كان فيها من أطفال ظنوا أن هروبهم من القصف على متن آلية تابعة لجمعية صحية سيحميهم من الموت الذي تربّع فوق الوطن في ذلك الوقت..
ومع زخات المطر، كان الأمل الإسرائيلي بتحقيق أي من أهداف العدوان قد تقلّص وانتهى وكان التسليم لإرادة المقاومة الإسلامية يُترجم من خلال الإتصالات التي تكثفت في عواصم العالم للوصول إلى اتفاق يضع حداً لسقوط المستوطنات بيد فوهات راجمات الصواريخ التي لا زالت تسكن في الذاكرة إلى اليوم، كانت تنطلق من مرابضها في الجنوب على وقع تكبيرات المقاومين والأهالي، وتسقط على رؤوس المستوطنين وقيادتهم التي اعترفت مرغمةً بقواعد اشتباك جديدة.. المستوطنات مقابل المناطق المدنية في لبنان، والمستوطنون مقابل المدنيين.
وعلى هذه النتائج انتهى العدوان دون أن تنتهي المقاومة الإسلامية من العمل لتحرير الأرض، وهو ما أدركه جيداً قادة العدو الذين كانوا يفاوضون تحت النار وفي الوقت الذي كان فيه مجاهدو حزب الله يزرعون الكمائن والعبوات ويرصدون تحركات ومخططات جنود "اسرائيل" وعملائها، وقبل أن ينتهي بيريز من كتابة مذكراته التي استخلص فيها ما كان قد سبقه سلفه إليه، ثبّت ما كان قد أعلنه اسحق رابين.. لقد هزَمنا حزب الله!
خيوط صنوبر* : أطلق العدو اسم عملية الصنوبر على اجتياح عام 1982
تصفية حسابات* : أطلق العدة اسم تصفية الحساب على عدوان تموز 1993