جهاد حيدر
من الصعب، بل من المتعذر، التعامل مع حلقة "جند مغرقون" التي عرضتها قناة المنار، وكشفت فيها بعض تفاصيل عملية استهداف البارجة "ساعر 5" خلال عدوانها على الضاحية الجنوبية في اليومين الاولين من حرب تموز 2006، على أنها مجرد حلقة تلفزيونية تأتي فقط في سياق احياء ذكرى الانتصار الذي حققه حزب الله على العدو الاسرائيلي.
المؤكد أن أول ما تثيره هذه الحلقة هو ماذا أراد حزب الله ايصاله الى العدو الاسرائيلي. حيث من المتسالم عليه أن الحلقة ستحظى باهتمام المؤسسات ذات الصلة في الكيان الاسرائيلي التي ستعكف عليها لفهم الرسائل والأبعاد المتصلة باللحظة السياسية التي تمر بها المنطقة، وما إذا كانت هناك خصوصية لكون الكشف متصلا بالبحر تحديدا في هذه المرحلة، وما هي في المعاني الكامنة في كشف تفاصيل بعدما مضى عليها 13 عاما.
مع ذلك، فقد انطوت الحلقة على أكثر من رسالة ايضا تتصل بجمهور المقاومة في لبنان وفلسطين والعالم العربي. ويعيدنا هذا الكشف الى العملية نفسها وما انطوت عليه في حينها من رسائل ونتائج.
أحدث استهداف البارجة الحربية الإسرائيلية "ساعر" صدمة في الواقع الإسرائيلي، قيادة وجمهوراً، لأنها شكلت مفاجأة على المستويين المفاهيمي والعملاني. ومردّ ذلك إلى أن القيادة الإسرائيلية استبعدت في حينه إمكانية أن يملك حزب الله قدرة تكنولوجية وعسكرية، بهذا المستوى، وأن يتمتع كوادره بكفاءات تمكنهم من استخدام ناجع لهذه التكنولوجيا، بل اعتبروا ذلك خارج تصورات قيادة سلاح البحرية آنذاك، التي اعترف قائدها في حينه، اللواء "دايفيد بن بعشط"، بالقول "إننا كنا أسرى الفهم الخاطئ". ولم يكن استهداف "ساعر" مجرد استهداف قطعة بحرية لسلاح البحرية الاسرائيلية، بل كان استهدافا للعمود الفقري للقوة البحرية الإسرائيلية، من هنا فإن استهدافها أدى في حينه الى تحييد سلاح البحرية منذ بداية الحرب، بالمعنى الاستراتيجي.
لم يقتصر عامل المفاجأة على أصل العملية فقط، واصابة الهدف مباشرة، بل كان متعدد الابعاد ولكل منها رسائله ومؤشراته. فقد تمثلت المفاجآت ايضا في امتلاك المقاومة لهذا السلاح المتطور، وفي زمان ومكان الاستخدام المناسبين والمدروسين بدقة، وهو ما أظهرته الحلقة التي أدارتها الزميلة منار صباغ، اضافة الى المفاجأة في تطور منظومة السيطرة والتحكم ونظام الاتصالات بين وحدات المقاومة وبينها وبين قيادتها، اضافة الى وحدة وتماسك القيادة الميدانية على الأرض، وكل ذلك في ظل تفوق وهيمنة اسرائيلية في البر والجو وكان يفترض ايضا في البحر. كل هذه العناصر مجتمعة شكلت عوامل نجاح العملية التي كان وقعها شديداً جداً على المؤسسات العسكرية والسياسية والاستخبارية.
ايا كان مفعول الموقف، يبقى للصورة سحرها وتأثيرها الخاص في النفوس. شكل برنامج "جند مغرقون" عينة ملموسة بالنسبة للجمهور العربي عن حجم الجهد الذي بذلته ـ وما زالت ـ المقاومة لمواجهة التهديدات الاسرائيلية التي تتفوق على لبنان في البر والبحر والجو، وعكست مستوى تطورها في الادارة والتخطيط، وحجم التصميم الذي تتمتع به في مواجهة العدو الاسرائيلي.
ينطوي الكشف عن بعض التفاصيل المتصلة بعملية استهداف بارجة "ساعر 5"، بعد 13 عاما على أن الحاكم دائما على أولويات المقاومة ما يحفظ لها عناصر قوتها، حتى لو كان المقابل توظيفاً اعلامياً لا يُستهان به، وكان يمكن أن يكون للكشف، في حينه، عن الكثير من التفاصيل التي وردت في الحلقة مفاعيله النفسية والمعنوية التي لا يستهان بها. لكن ديدن المقاومة هو مصلحة معادلات الصراع مع كيان العدو، ولو على حساب مصالح اعلامية عادة ما تكون مقتل الكثير من الاحزاب والشخصيات. وسبق أن نفذت مثل هذا الاداء ومن الأبرز الأمثلة على ذلك اسرار عملية انصارية التي بقي الكثير من تفاصيلها طي الكتمان، مع أن الكشف عنها كان يمكن أن يجيب عن الكثير من الاسئلة التي كانت تهيمن على المشهد الاعلامي، إلا أن مصلحة المقاومة كانت في كتمانها، وبعد سنوات تم الكشف عنها بمقدار مدروس في سياق آخر.
يعكس الكشف الان عن بعض التفاصيل المتصلة بهذا النوع من الصواريخ وكيفية اطلاقه، أن المقاومة تجاوزت ما تم عرضه وباتت في مراحل متقدمة جدا. واذا ما كانت المقاومة استطاعت قبل 13 عاما تحييد سلاح البحرية الاسرائيلية منذ الايام الاولى للحرب، فكيف سيكون الحال عليه بعد كل مراحل التطور التي قطعتها؟
أما لجهة البحر، فمن المؤكد أن قادة العدو سيرون في ذلك رسالة تتصل بالتطورات التي تشهدها المنطقة. رسالة تقول لهم إن كل حركتهم البحرية تحت نيران صواريخ حزب الله، وعليهم، هم وأسيادهم الاميركيين، ألا يتجاوزوا خطوطا حمراء حتى لا تتحول مياه البحر الى اللون الاحمر ايضاً.
أعاد الكشف عن الكثير من تفاصيل استهداف بارجة "ساعر 5" عقيدة المفاجأة في استراتيجية المقاومة الى الواجهة من جديد. وهو ما ينطوي على رسالة واضحة للعدو أن عليه ترقب الكثير من المفاجآت التي لم يحسب لها حسابا. فإذا ما كان تطور قدرات المقاومة سمح بهذا الكشف، فإن عليه أن يطلق العنان للخيال حول المدى الذي بلغته في التطور.