علي ابراهيم مطر
في مشهد أعاد خلط الأوراق السياسية والأمنية، دخل تنظيم "جبهة النصرة"، إلى لبنان واستوطن في منطقة عرسال، ومن ثم لحق به تنظيم "داعش". على الأثر، بدأت تقع تفجيرات متنقّلة في مناطق مختلفة من لبنان. وقد لعب العنصر الجيوبوليتيكي، دورًا رئيسيًا في إتاحة الفرصة أمام هذين التنظيمين لدخول لبنان، نتيجة الحدود التي تربط لبنان وسوريا، حيث تحدّ سوريا لبنان من الجهتين الشماليّة والشرقيّة.
خطة توسع التنظيمات الإرهابية لبناء الإمارة في لبنان
العلاقة الجغرافيّة سمحت بتوغّل الإرهابيين والسّيطرة على مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي اللبنانيّة في جرود السلسلة الشرقيّة، فضلًا عن استهداف عددٍ من البلدات اللبنانيّة، من قِبل العناصر الإرهابيّة على تخوم هذه القرى. ودون أدنى شك، كان الربط بين لبنان وسوريا أحد أهم أهداف الجماعات الإرهابية، وذلك من أجل تأمين خط الإمدادات لها من لبنان نحو سوريا. وبالتالي كان لا بد من دخول المناطق اللبنانية، وهذا ما شكّل خطًا أحمر في المقابل بالنسبة لقوىً لبنانيةٍ رئيسيةٍ، كان على رأسها حزب الله الذّي عمل على الدّفاع عن المناطق الحدوديّة مع سوريا، ولم تكن صدفةً أن كانت أولى المناطق التي عملت الجماعات الإرهابية على احتلالها، المناطق الحدودية الفاصلة بين لبنان وسوريا. فتمّت السيطرة على حمص، القصير والزبداني، ومن ثمّ المناطق السورية التي يقطنها لبنانيون مثل زيتا، السماقيات، جرماش وربلة. ونجح المسلحون باحتلال هذه المناطق الممتدة على طول الحدود اللبنانية، كونها تُشكّل همزة وصل بين العاصمة السوريّة والساحل السوري ونقاط الإمداد من لبنان عبر سهل البقاع والبقاع الشمالي. ومن أجل فتح معبر الإمداد الرئيسيّ عبر الشمال اللبناني والساحلين السوري واللبناني ما يُشكل خطرًا استراتيجياً على العاصمة السورية دمشق".
وهكذا فعلت "جبهة النّصرة" وتنظيم "داعش"، بعد تمدّدهما من القلمون باتجاه عرسال في أواسط آب/ أغسطس2014 بعد اعتقال أحد قياديّيها في جرود عرسال. لقد كان عمل التنظيمين في بداية الأمر يقتصر على وضع متفجراتٍ في مناطق مختلفةٍ من لبنان، وعلى رأسها الضاحية الجنوبيّة لبيروت. ويعود ذلك الاستهداف لتأييدها لحزب الله، الذي دخل إلى سوريا وشارك في القتال إلى جانب القوات السورية، من أجل حماية العمق الاستراتيجي للمقاومة، والحد من التهديدات التي تعرض لها لبنان من المنظمات الإرهابية، والتي انتشرت على طول الحدود اللبنانية السورية، واحتلت أجزاء من الأراضي اللبنانية.
كان قرار لبنان حاسمًا بالتخلّص من الإرهاب في جرود رأس بعلبك والقاع وطرد التّنظيم الإرهابيّ من المناطق اللبنانية
بعد انسحاب الإرهابيين من القصير، أصبحت سلسلة لبنان الشرقية من جرد القاع حتى عرسال معقلاً لمئات المسلّحين، الذين ينتمي معظمهم إلى "جبهة النصرة" وكذلك تنظيم "داعش"، وقد أنشأ هؤلاء في الجانب اللبنانيّ معسكرات تدريبٍ ومستشفياتٍ ميدانيةً وشقّوا طرقاتٍ عسكريةً في أعالي الجبال، وحصلوا على سياراتٍ جديدةٍ لتنقلاتهم وعلى أسلحةٍ جديدةٍ أيضًا، هذا فضلًا عن من كان يأتي من القلمون السوري الذي سيطرت عليه الجماعات المسلحة، ومن ثمّ عمل الجيش السوري على تحريره منها، ولذلك بدأ العشرات من هذه العناصر بالانسحاب نحو لبنان، وبدأت تنتشر شبكات تهريب الأفراد والسّلاح والمتفجرات نحو القرى اللبنانيّة.
الأعمال الإرهابية واستهداف الأمن اللبناني
الأعمال الإرهابيّة أرخت بثقلها على الأمن والاستقرار في لبنان، فحيثما حلت هذه الجماعات، حلّ القتل، فضلًا عن أن انتشارها أدّى إلى انقسام اللبنانيين سياسيًا، حول وجود هذه التنظيمات وكيفية التعامل معها، خاصةً أنّ هناك فريقًا لبنانيًا كان يعتبرها جزءًا أساسيًا من الحراك في سوريا، يجب دعمها والتعامل معها من أجل التخلص من نظام الرئيس السوري بشار الأسد، فيما وجدها آخرون بأنها تُشكّل تهديدًا أمنيًا للكيان اللبناني.
لم تقتصر أعمال هذه الجماعات على التفجيرات، فقد أخذت "جبهة النصرة" و"داعش" منطقة عرسال وجرود السلسلة الشرقية للبنان رهينة واستوطنت فيها وبدأت تستخدمها لتنفيذ مخططاتها الإرهابيّة، علمًا أن عرسال هي إحدى البلدات اللبنانيّة التي احتضنت أعدادًا كبيرة من النازحين السوريين، وخاصةً من بلدات القلمون والقصير. وقد حوّلت الجماعات الإرهابية هذه إلى المنطقة قاعدةً لها، لتنفيذ هجماتٍ أدت إلى زعزعة الاستقرار في لبنان، حيث جعلت من "عرسال" منطقة تتحصّن بها بين المدنيين، فتحول دون دخول الجيش اللبناني إليها، وقد تم استهداف الجيش اللبناني والقوى الأمنية فيها وتم اختطاف 30 عسكريًا إلى الجرود.
ومنذ تاريخ معركة عرسال، وعبر استغلالٍ واضحٍ لقضية العسكريّين؛ بدأ تنظيما "النّصرة" و"داعش" اللعب بالحياة اللبنانيّة السياسيّة والاجتماعيّة، وابتزاز السلطات اللبنانيّة، سواءً عبر توجيه التهديدات بقتل العسكريّين أو المطالبة بـ"تحرير" الموقوفين الإسلاميّين، أو عبر دعوة الأهالي إلى قطع الطرق وشلّ الحركة في لبنان، أو عبر إعدام أحد العسكريّين وإصدار فيديو وصور بالحادثة وتفجير الساحة اللبنانيّة سياسياً.
هكذا حفظ لبنان
استمرت هذه التهديدات الإرهابية، إلى أنّ تم إخراج "جبهة النصرة" من جرود عرسال التي حررها حزب الله، حيث خرج إرهابيو الجبهة في 2 آب/أغسطس 2017، باتجاه منطقة إدلب، وقد تسلّم الجيش اللبنانيّ مناطق جرديّة في عرسال، لم يكن قد دخلها منذ عام 2011.
وفي وجه تنظيم "داعش"، كان قرار لبنان حاسمًا بالتخلّص من الإرهاب في جرود رأس بعلبك والقاع وطرد التّنظيم الإرهابيّ من المناطق اللبنانية، واستعادة أسرى الجيش اللبناني منه. فجر التاسع عشر من آب/أغسطس من العام 2017 أعلن الجيش اللبنانيّ إطلاق العمليّة العسكريّة تحت اسم "فجر الجرود". أمّا من الجانب السّوري؛ فقد تقدّم حزب الله والجيش السّوريّ، ضمن عملية "وإن عدتم عدنا". لقد أدّت هذه العمليّة إلى السّيطرة على عددٍ من التّلال الحاكمة والمواقع الاستراتيجيّة؛ بعد نحو عشرة أيامٍ، أعلن تنظيم "داعش" الإرهابيّ إستسلامه، وجرت بعدها مفاوضات أدّت إلى خروج الإرهابيّين إلى "البوكمال."
لقد حقّق اللبنانيون إنجازاتٍ هامّةٍ، في مواجهة التّنظيمات الإرهابية كان لها في الواقع الاستراتيجيّ والسياسيّ دلالاتٌ كثيرةٌ، أبرزها أنّ لبنان في صلب المعسكر الحقيقيّ لمكافحة الإرهاب، وأنّه جديرٌ بهذه المواجهة. هذه المعادلة كان لها تأثيٌر على محور الأمن القوميّ العربيّ ككلّ، وخاصةً في ما يتعلق بالأزمة السوريّة، سيّما أن هذا الانجاز أسقط مخطّط عزل لبنان عن سوريا، الذي كان تنظيم "داعش" يسعى إلى تحقيقه، والسيطرة على مناطق رئيسيّةٍ فيه من الهرمل وصولاً إلى طرابس وضمّها إلى مناطق "الخلافة" إلا أن التنظيم لم يجد في لبنان بيئة واسعة تتقبله، وكان الأخطر منه "جبهة النصرة" التّي التفّت حولها تياراتٌ سياسيّةٌ لبنانيةٌ جعلتها تتحرّك بسهولة ٍأكبر لتحقيق مشروعها بإقامة إمارةٍ إسلاميةٍ في لبنان، تُشكّل داعمًا لها في حربها ضدّ الدّولة السوريّة، إلا أنّ معارك الجرود أسقطت هذه المخططات وحفظت الأمن والاستقرار في لبنان الذي كان مهددًا بأمنه واستقراره لا بل بحفظ كيانه وسلامة أراضيه.
_____________________
1- نضال حمادة، معركة قادش الثالثة ( أسرار حرب القصير)، الطبعة الأولى، بيروت، دار بيسان، 2014، ص 19.
2- أحمد شبيب مسلماني، حزب الله والجغرافيا السياسية للأقليات (معلولا نموذجاً)، الطبعة الأولى، بيروت، دار بيسان، كانون الثاني 2019، ص 129.
3- رضوان مرتضى، رحلة سفينة لطف الله 2 لم تنته بعد، صحيفة الأخبار اللبنانية، العدد 1820، الجمعة 28 ايلول/سبتمبر 2012.
4- تقرير الأمين العام عن تنفيذ قرار مجلس الأمن 1071، للفترة المشمولة بالتقرير من27 حزيران/يونيو إلى 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، مجلس الأمن، 11.
5- رفعت سيد أحمد، داعش خلافة الدم والنار، الطبعة الأولى، دار الكتاب العربي، القاهرة، 2015، ص 253.
6- RICK GLADSTONE and ANNE BARNARDAUG, U.S. Accuses Hezbollah of Aiding Syria’s Crackdown, 10,August,2012, https://www.nytimes.com/2012/08/11/world/middleeast/us-officials-say-hezbollah-helps-syrias-military.html