هدى رحمة
يظن أنه وحيد في الغرفة، في قنوته أثناء الصلاة يشكر الله لأنه أنعم عليه بأن سلبه بصره، فسلبه بالتالي القدرة على العصيان بالنظر.
يتحدث عن فقدانه لثلاث من حواسه كمن يتحدث عن مشكلةٍ صغيرةٍ عابرة، يختصرها بجملة "بس فقدان هيدي الحواس مش أزمه، عاديه يعني."
يدخل المنزل على الكرسي المتحرك، وقبل أن يجلس على الكنبة وقدماه لن تخطا الأرض لأنهما مقطوعتان، يسأل ابنته: "شو كيف عملتي بامتحان الرياضيات اليوم يا بابا."
في يوم العاشر من محرم أصر أن يحمل الراية، وهو قطيع الكفين عدا إصبعين، فثبت الإخوان الراية بالكرسي المتحرك، وقبض عليها بإصبعي يده اليسرى.
يذهب إلى عمله صباحاً، وبعد الظهر لثلاث مرات في الاسبوع، هو على موعدٍ لغسل كليتيه.
هو نفسه الذي سَخِرَ من عدوه وهو في قبضته، فحين ابتهج المحقق الإسرائيلي قائلاً: "إنت كنز نزل علينا من السما والطيار رون آراد رح يطلع ع إيدك." أجابه: "أنا تنك مصدي وما رح يطلعلك شي."
وحين ساومه الإسرائيلي على عينه، بإجراء عملية لها ليستعيد بصره بها، بكل ما أوتي من تحدٍ ويقين كان جوابه المدوي: "وبعد في هول الأصبعين بإيدي الشمال بدك ياهن خدهن كمان."
هو نفسه الذي قبل تنفيذه العملية الأمنية النوعية التي كانت مقررة، كان يريد أن يتناول الفول.
هو نفسه الذي قرر أن يكون استشهادياً، فكان نصفه شهيداً تحت التراب، ونصفه شاهداً على عمق إيمان، وعزيمة غير عادية، وإرادة تخرق الصخر.
هو نفسه الذي كان يبدل ثياب ابنته بنفسه، لا يشبع من اللعب معها وحملها واحتضانها وتقبيلها.
هو نفسه الشاب طويل القامة، المزوح، الرياضي، السباح الماهر، المطالع الفذ، المواكب للثقافة بمختلف فروعها، والمتأثر بثورة الخميني العظيم. هو خريج إدارة الأعمال، والأستاذ لمادة العلوم التجارية.
هذا الشاب المتعلم، الأستاذ، المثقف، ذو روح النكتة، الابن والأب، هو نفسه الذي قرر القيام بعملة أمنية خطيرة. وهو يعلم يقيناً أنها من الممكن أن تكون استشهادية، أو أن تتسبب بأسره أو جرحه. لا يمكن لإنسانٍ عادي أن يتخذ هكذا قرار، من سيترك كل النعم المحيطة به خلفه، ويقتحم الموت، عليه أن يمتلك أعمق مراتب الإيمان، وأصلب درجات الإرادة، وعزيمة فوق العادة. وهكذا هو.. الحاج حسين المقداد.
في نيسان/ أبريل من عام 1996، دخل إلى فلسطين المحتلة لتنفيذ عملية أمنية نوعية، اخترق أجهزة الصهاينة الأمنية، وحواجزهم، ومشى بينهم، وكان في نفسه يستهزىء بهم. تنزه في شوارع القدس، والتقط لنفسه صوراً هناك.
قبل أن ينام الحاج حسين ليلته في الفندق في القدس المحتلة، وعد نفسه بتناول الفول صباحاً قبل تنفيذ العملية. لكنَّ خطأً تقنياً أدى إلى انفجار العبوة في الغرفة، وأصيب الحاج حسين في كافة أنحاء جسده، ليكون مصداق كمال الجراح. فَقَدَ الحاج حسين ثلاثاً من حواسه الخمسة، البصر والتذوق والشم، وقُطعت قدماه من فوق الركبة، وكذلك كفه اليمنى، وثلاث أصابع من الكف اليسرى.
بعد الفترة التي قضاها في المستشفى الإسرائيلي، استيقظ الشاب حسين ليجد نفسه بنصف جسد، وعين يرى بها شبه ضوء، ما لبث أن أطفأها الإسرائيليون بعد رفضه إعطاءهم معلومات. وفي وضعه الصادم المستجد، فَرِحَ بنعمة الجراح التي وهبها الله له، ثم فرح بنعمة الأسر. ورغم صعوبة وضعه، والمعاناة الجسدية التي بقي لازمته داخل السجن، لم يضعف لحظة، لم يقنط، بل كان مثالاً في حقيقة الصبر والرضا بقضاء الله والتسليم لأمره. لم يكن ليبالي لو أن أسره امتد لسنواتٍ طوال. ما كان يشتاق له هو حضن ابنته الوحيدة آنذاك.
وبعد حوالي عامين، ولأنه ابن مقاومةٍ لا تترك أسراها في السجون، عاد بعملية التبادل في حزيران/ يونيو من العام 1998، متوجاً بعز الجراح والأسر. أول ما سأل أهله كي يخفف عنهم هول إصاباته، كان استفساراً عن آخر حدثٍ سياسي لبناني حصل قبل سفره إلى فلسطين المحتلة، أدهشتهم صلابته. ومباشرةً بعد أول عملية جراحية أجراها في رحلة علاجية، فور استيقاظه من البنج سأل عن وقت الصلاة، فهنا يُترجم الإيمان الحقيقي.
بجَسدٍ نصفه كان شهيداً ونصفه جريحاً، أسس الحاج حسين عائلةً وأنجب أختين لابنته الكبرى، وتابع طموحه العلمي، فحصل على شهادة الماجستير في الفلسفة والإلهيات، والماجستير في اختصاصه الأساس إدارة الأعمال. وعاد إلى أحضان التعبئة التربوية، فعمل معهم، وكان عمله لوجستياً وتبليغياً، وأبدع في الدورين. ولا زال يحضر إلى منزله أساتذته في الجامعة الذين غدوا أصدقاءه، ويشهدون أنه خير من يطالع ويناقش.
هي نفسٌ انصهرت بها أعمق القيم الدينية والإنسانية والجهادية. هي نفسٌ عرفت الله حق معرفته، فما رأت منه إلا جميلا. هي نفسٌ لا زالت تُحصي نِعَمَ الله عليها وتشكره. هي روحٌ قاتلت، ولا زالت تقاتل، لأنها تؤمن يقيناً وفعلاً وقولاً، أنه طالما الإنسان ومهما كان وضعه، موجود على هذه الأرض، فله دور، وهو خير من أتقن أدواره في كافة جوانب الحياة، فقد عرف ربه، فعرف نفسه.