فاطمة ديب حمزة
آمنة، راضية، مرضية عادت الحاجة آمنة سلامة إلى ربها .. عمرها الذي ناهز الثمانين عاماً يختصر فكر المقاومة ونهجها وسرها ونصرها .. يحفر في كف التاريخ عميقاً صورة عن وجه المقاومة .. بملامحه، ورسمه، وصلابته، وسحر البهاء المستودع فيه .. هذا جهاد هنا، وفؤاد هنا، وعماد هنا، وجهاد الحفيد ايضاً .. كلهم هنا، في مجرى الدمع الواصل إلى القلب، ومنه إلى عالي الجبين وعزه .. وبعزه تكللت رحلة أم المقاومة وعزيزتها .. وما برحت.
" لم تكن كثيرة الكلام " .. هذه صفة معروفة عنها ... زاد من صمتها، انخراط ابنها البكر "عماد" باكراً في العمل المقاوم.. كانت تدرك جيداً أهمية كتم الأسرار، فصارت أعمق من بئر لأسرار المجاهدين والمقاومين .. أصلاً هي كانت فرداً مقاوماً في بيئة مؤسسة لفكر المقاومة ونهجها .. من الإمام السيد موسى الصدر، إلى السيد محمد حسين فضل الله ليومها الأخير .. ساهمت وشاركت وأسست للخط الجهادي ضد المحتل .. وعندما واجهتها المصاعب واجهتها بصبر مستلهم من المدرسة الزينبية الكربلائية، وانتصرت عليها .. حتى اتاها اليقين.
لا تنتهي سيرتها ..
بعد أن فرغت من صلاتها .. جلست، وهي شاردة في غرفتها .. استعادة اللحظات لم تعد سهلة أو سريعة .. وبصوت رخيم، متقطع، تبدأ الحاجة "زهرة شعيب" بسرد بعض ما أمكنها عن رفيقة عمرها "أم جهاد" التي لا تنتهي سيرة جهادها .. سريعاً، تكتشف أنها متمكنة من وصف شخصية "آمنة سلامة" ..
هي عايشتها منذ الصغر، منذ التأسيس والعمل والعائلة والجهاد والاستشهاد .. تختصرها بأنها "شخصية المرأة المقاومة – الزينبية" .. ثم تعود بالسنين إلى الوراء، فتجد فيها "اليد الموجِهة، والطلقة المتصدية، والنهضوية التقدمية التي خاضت الجهاد بأكثر من دور، فكانت مجاهدة متعددة الأوجه".
تعتذر الحاجة زهرة منا لعدم قدرتها على نقل كل ذاكرتها عن رفيقتها أم جهاد، لأن الأمر يتطلب ساعات وأيام وليالي .. لكنها تجيد الاختصار في الوصف من جديد، فتشبّه الراحلة بـ "حافظة سر المقاومة ودماء الشهداء" ..
تصمت قليلاً مستذكرة، لتعود الينا بمزيد عن شخصية "أم المقاومة" المؤمنة "بعمل المؤسسات وإدارة العمل، وتدبير الأمور .. والتي حوّلت حياتها وبيتها وعائلتها وبيئتها، إلى متراس مقاوم، بوجه العدو".
إرادة العطاء .. بلا حدود
من يعلم "أم جهاد"، يعرف جيداً أنها كانت تملك قرارها .. وأنها كانت تقارب الأمور منطقياً وتحسبها .. هي إمرأة تملك من الذكاء ما يكفي للإدارة والمواجهة والمجابهة والتواصل .. وتملك ايضاً تراكم أحداث وتجربة وخبرة ..
وهي بالتالي، عندما توالت أخبار استشهاد أبنائها من العام 1984 (جهاد) إلى العام 1994 (فؤاد) ثم العام 2008 ( عماد ) ثم الحفيد (جهاد) في العام 2015، لم تخبئ حزنها، لكنها كانت تؤمن بأن ثمن الطريق هذا هو الدم .. وأن الموت هنا، ليس مجرد غياب، بل حياة متجددة، وواجب جهاد، وعطاء في درب الحسين (ع) ..
اليوم، الحاجة "آمنة سلامة" صارت نسَباً لحالة جهادية ثورية اجتماعية، تقول حفيدتها "فاطمة بري" .. ثم تسهب في شرح ما قدمته في سبيل الأرض وصون العرض، من جهد وتأسيس وعمل وعلم، وأرواح وأولاد، وما أغلى من الأولاد، "ولد الولد"، تقصد الحفيد الشهيد "جهاد" ..
"كل ما يمكن أن يقدمه إنسان قدمته الحاجة" تكرر فاطمة، ثم تنتقل للحديث عن "عطفها ولطفها، وحبها وقربها من الجميع، وتحديداً من عوائل الشهداء والجرحى والمجاهدين" .. إنها "قدوة للمرأة المجاهدة، المربية، الحرة الشجاعة، الصابرة الزينيبية" .. تختم حفيدتها.
سند "العماد" .. هي
من حيث انتهت فاطمة، تبدأ "مريم" مساعدة الحاجة "أم جهاد" .. "قدمت ما يمكن، وما لا يمكن في درب النصر" تقول مريم، وهي التي حضنت آخر أنفاس "الحاجة" في سريرها.
تكاد مريم لا تأخذ نفساً عندما تبدأ بسرد خصال "أم جهاد" .. "صاحبة التربية الإسلامية الجهادية، المؤمنة، الصابرة، المربية، ..... " صفات تحتار في ترتيبها قبل اسم "الحاجة" ..
لكنها فجأة تبدل من تقاسيم وجهها ونبرة صوتها: "أم جهاد"، "لم تكن إمرأة عادية من ناحية الذكاء الفكري، والتحدي الشخصي" ... "الحاج رضوان إبنها .. ولك أن تفهمي عن أي ذكاء وتحد أتكلم" تكشف لنا مريم ..
ثم تضيف: "الحاجة، كانت سند الحاج عماد، ونظرته الثاقبة"، هذا ما يمكن أن أقوله. تقرر مريم أن تعود بالحديث عن سيرة الحاجة "آمنة"، فتشرح لنا كيف كانت "مساهماً فعالاً في نشر فكرة اللباس الشرعي والسلوكيات الايمانية والالتزام الديني"، وكيف كانت تبهر الوفود والشخصيات الأجنبية بابتسامتها وصلابتها عندما يسألونها عن سر صبرها، فتجيب دائماً: "زينب قدوتي، هل تعرفونها؟؟" ..
كان للشهداء وعوائلهم وقع خاص في قلب "أم عماد " .. كانت "تحفظ أسمائهم، وجوههم، قصصهم، بطولاتهم وانتصاراتهم" .. كانت تسعى اليهم، لمناسباتهم، لعوائلهم وأولادهم .. فكانت فعلاً: "أم الشهداء".