عباس فنيش - صحيفة الأخبار
في خطابه الانتخابي الأخير الموجّه إلى أبناء البقاع، أول من أمس، بدا الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله حريصاً على إعطاء زخم سياسي كبير للمعركة الانتخابية، ربطاً بما ينتظر لبنان والمنطقة من استحقاقات، غداة السادس من أيار المقبل، وهو شَكَر كل من ساهم في ثنيه عن مخاطرة نزوله شخصياً إلى البقاع لحثّ الناس على التصويت والمشاركة. البقاع الذي قضى «السيد» فيه ردحاً كبيراً من عمره.
لم يشعر الشاب الحوزوي الهارب من نظام صدام حسين بغربته في تلك المدينة. لم يلمس فارقاً بين منزل العائلة في البازورية الجنوبية التي خرج منها في سن الخامسة عشرة ومحل إقامته الجديد في حي الشيخ حبيب في مدينة بعلبك. بنظاراته السميكة ولحيته الكثّة وجسده النحيل سيتسلّل إلى القلوب هنا، وسرعان ما سيبدأ الهمس في مدينة الشمس باسم «السيد حسن»، المسؤول السياسي لحركة أمل في البقاع. كان ذلك في نهاية سبعينيات القرن الماضي.
إماماً للجماعة في مسجد الإمام علي في حي الشيخ حبيب، توسعت معرفته بالبقاع وأهله. التصاق المسجد بحوزة الامام المنتظر التي أسّسها أستاذه السيد عباس الموسوي، ورعاية الأخير له، جعلاه أكثر التصاقاً بالناس. انتقل من حوزوي واعظ يعرّف الناس بالإسلام الحركي الثوري، إلى واحد منهم، يتشارك همومهم، يتأصل في عاداتهم، ويجول في أسواقهم. وهناك، رُزق بولديه جواد وزينب.
مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وقدوم عناصر من الحرس الثوري من الجمهورية الاسلامية في إيران، بالتنسيق مع السيد عباس الموسوي، تشكّلت الملامح الأولى لما سيعرف لاحقاً باسم حزب الله. وفي هذا الاطار، تألّق «السيد حسن» في استقطاب الناس وتحشيدهم في كل المفاصل: أول الهاتفين، والواقف في الصف الأول أمام الجموع تارة أو على « البيك آب» تارة أخرى. تنقل في كل البلدات فعرفها وعرفته، وحفظ العشائر والعائلات وحفظته، من القصر وحوش السيد علي إلى الكرك، ومن شمسطار إلى يونين، حتى داخلت لهجته ألفاظاً بعلبكية تأثراً باختلاطه بناس تلك المنطقة.
من بيروت إلى البقاع
كان هدفه حثّ الناس على المشاركة في الدورات العسكرية للتعلم على حمل السلاح لمقاومة إسرائيل، من دون أن يغفل دوره التبليغي، سواء في حوزة الامام المنتظر أو بين الناس. في شهر رمضان، كان السيد الشاب يتخلّى عن كل مشاغله، وينطلق نحو مناطق عشيرة آل جعفر في فيسان وجورة قدور والرويمة وغيرها، وهي مناطق نائية كان الانتقال اليها شديد الصعوبة، مفرّغاً وقته لتعليمهم أحكام الدين. عكس ذلك لدى المحيطين به بعدين في شخصيته سيرافقانه طيلة مسيرته: صبره المذهل واستشرافه للمستقبل، حين كان يقول إن هؤلاء سيصبحون يوماً سند المقاومة الصاعدة.
خرجت تشكيلات حزب الله إلى العلن، وبات السيد مسؤولاً لمنطقة البقاع، وبالتزامن، إمام الجمعة في بلدة النبي شيت. بدأ عمله يأخذ منحى تنظيمياً: يتابع، يدقق في التفاصيل، لا سيما المتعلقة بالدورات العسكرية والملتحقين بها منذ أول يوم حتى التخرّج، ووضع نفسه في تصرّفهم كمدرّب دائم يعطي الدروس السياسية والعقائدية في معسكر جنتا. في الآن نفسه، لم ينقطع عن بيروت ولا عن الجنوب، إذ كان عضو شورى قرار في الحزب، قبل أن ينتقل عام 1985 إلى بيروت متولياً منصب المسؤول التنفيذي العام لحزب الله، وبعدها مسؤولاً لمنطقة الجنوب. مع ذلك، بقي حاضراً دائماً في البقاع، وبقي منزله هناك مفتوحاً، واستمر حضوره المباشر، لا سيما في المناسبات الكبرى، كيوم القدس العالمي.
مع استشهاد السيد عباس الموسوي وتوليه الأمانة العامة، انتقلت المقاومة الإسلامية الى نمط آخر واستحقاقات أخرى. بقي حاضراً «ميدانياً» في البقاع، في تخريج الدورات أو في جمع الكوادر والتشديد على محورية دور المنطقة في مقاومة الاحتلال، إذ كان محور البقاع الغربي المحتل تابعاً لمنطقة البقاع. لذلك، كان يتعمّد الحضور عند كل عملية نوعية أو حساسة، ويدخل في أدق جزئياتها.
وكان للشهداء في البقاع وعوائلهم الحصة الأكبر من اهتمامه، مشاركاً في تشييع أو خطيباً في أسبوع أو عاقداً قران أحد الأبناء أو البنات. وإذا ما حتّمت الظروف تأجيل الزيارة، فإنها لم تحل يوماً دون إتمامها، حتى إن معظم البيوت البقاعية تحتفظ بصور تذكارية شخصية مع «سماحة السيد».
من حرب التحرير إلى تموز 2006
عام 1997، إبّان ما سمّي «ثورة الجياع»، كانت توصياته تقضي بالتحمّل والاستيعاب وعدم الانجرار الى أيّ احتكاك. ولدى سؤاله عن السبب، كان يقدّم مصلحة البقاع وناسه وعشائره على المصلحة التنظيمية. الناس كانوا دائماً هم المفتاح. وهم لاقوا السيد في منتصف الطريق، فبادروا بدعوته الى قراهم وبيوتهم لتجديد الولاء، فجال في الهرمل وشمسطار وطاريا وبدنايل وشعث وغيرها.
كان أثر «سماحة السيد» فوق أي اعتبار، وفوق الدم والثأر. فبات أي احتكاك بين عشيرتين يُحل بزيارة من كادر في حزب الله حاملاً الرسالة الآتية: «بسلّم عليكن سماحة السيد».
في ذلك العام، أدخل استشهاد السيد هادي نصرالله الحزن إلى كل دار في البقاع. فتحت الحسينيات والبيوت للعزاء بالشاب الذي ترعرع بينهم، ولا يزال بعضهم الى اليوم يذكره صغيراً مع والده وأخيه جواد في سيارة المرسيدس «اللفّ».
تحرير عام 2000 كان صداه في البقاع أقوى من الجنوب. كعادته، استشرف السيد المرحلة المقبلة، استعداداً لحرب يراها واقعة مع العدو، فكثّف جولاته مع القائد الحاج عماد مغنية في المنطقة للاطلاع على الدورات التخصصية، مفتتحاً بعضها وراعياً تخريج بعضها الآخر، ومطّلعاً اطّلاعاً تفصيلياً على الجاهزية العسكرية للوحدات المختلفة.
في حرب تموز 2006، لم ينقطع قائد المقاومة عن البقاع، سواء خلال الحرب من خلال المتابعة الدقيقة لسير عمل الأجهزة المختلفة، أو بعدها بمتابعة كل ما يتعلق بالشهداء وإعادة الاعمار.
مواجهة التكفيريين
عام 2011 شكّل محطة مفصلية جديدة بقاعاً. الحراك في سوريا سرعان ما سيصبح تهديداً متصاعداً على الحدود الشرقية للبنان. مطلع 2012 بدأت تجاوزات الفصائل الارهابية على الجانب الآخر من الحدود، إلى أن سقطت مدينة القصير في أيدي المسلحين، وبدأت الاعتداءات على نحو 30 ألف لبناني يقيمون في قرى سوريّة. أرسل الأمين العام لحزب الله بطلب المعنيين، وعقد معهم اجتماعاً تفصيلياً لتقييم الوضع. كان حريصاً على البقاع وأهله بنفس درجة الحرص على السيادة الوطنية للبنان المهدد بحدوده الشرقية. كان القرار دفاعياً يقتصر على التعاون مع اللبنانيين في القرى المهددة لتسليحهم وتدريبهم وتشكيلهم بحسب الحاجة للدفاع عن أراضيهم، لكن الأصل لديه كان تشكيل لجان علاقات ومصالحات وتجنّب الاحتكاك، موصياً بفتح الباب امام الحالات الإنسانية حتى للمسلحين، وتقديم المساعدة والطبابة وتسهيل دخول الولادات، والفصل بين المدنيين والإرهابيين. وفي الموازاة، أوصى بتفعيل حضور حزب الله وكوادره بين الناس لحساسية الأمر، فهو لا يريد أن يضعهم في اختبار صبر جراء تجاوزات الإرهاب التكفيري. في تلك الفترة، كانت متابعة السيد شبه يومية، يسأل فيها أولاً عن الناس والعائلات والعشائر، وبعدها يأتي العمل.
مع تصاعد التهديد عام 2013، وتوسيع دائرة النار إلى قرى الهرمل وغيرها، اتخذ القرار بالانتقال من الدفاع الى الردع، وتنظيف قرى غرب العاصي وريف القصير. مع اقتراب معركة القصير، حضر السيد بشخصه. اجتمع بالقيادة العسكرية وبمسؤولي السرايا واستمع الى شرح مفصل عن الوضع الميداني وأبدى ملاحظاته، شارحاً لهم المعركة بأبعادها كافة، ومبيّناً أهميتها في حماية البقاع وأهله وقراه.
بعد القصير لجأت الفصائل التكفيرية، مع انتقالها الى قرى القلمون وجرودها والسلسلة الشرقية، الى التفجيرات الانتحارية في القرى والبلدات البقاعية. بقي متابعاً لصيقاً للوضع و«كأنه كان موجوداً في غرفة العمليات في البقاع»، بحسب المطلعين، حتى حسم معارك القلمون الأولى. إثر تلك المعارك، ركزت «جبهة النصرة» إرهابها على جرود القرى اللبنانية، واستمرت في إرسال السيارات المفخخة وإطلاق الصواريخ في اتجاه قرى البقاع ومهاجمة مواقع حزب الله، وأبرزها موقع عين ساعة في جرد بريتال حيث استشهد ثمانية مقاتلين.
«السيد» في السلسلة الشرقية
بعدها بفترة، التأمت القيادة العسكرية في البقاع لتقييم الأوضاع ودراسة الخيارات. طُرق الباب. كان الأمين العام شخصياً يرتدي بزة عسكرية سوداء ولفحة التعبئة. فوجئ الجميع بحضوره. طلب منهم شرحاً مفصّلاً عن الأوضاع ، وأعطى توجيهاته بأن الأمر بات محسوماً: «لا بد من القضاء على كل التهديد الإرهابي على الحدود الشرقية». المفاجأة كانت أكبر عندما طلب القيام بجولة ميدانية تفقدية. جال السيد على كل نقاط التماس والمحاور والمراصد الأساسية. في بعض النقاط لم يتوقع المرابطون هناك زيارة السيد، لذلك كان كثيرون يسألون عن حجم «الشبه الكبير» بين السيد وهذا «القيادي الزائر»! في مرتفع رأس الحرف، ترجّل من السيارة وسار الى الساتر الأول. كان من معه يخشون تعرّض السيارة لرماية صاروخ موجّه، لكنه أصرّ على إكمال الجولة، وطلب تمكين التحصينات وتفعيل الكمائن وسدّ المعابر وإحكام الخطط الدفاعية. هذه الجولة، للمفارقة، حصلت في ذروة نشاط جوي إسرائيلي. عند وصوله إلى منطقة مشرفة على عين ساعة، حرص على معرفة تفاصيل «كيف استشهد الإخوان». في آخر نقطة، حدّثه المسؤولون الميدانيون عن التضاريس القاسية، فردّ السيد: «أنا مرتاح. هيدي هينة على شبابنا». عكست عبارته اطمئناناً للنصر.
في تلك الجولة، وضع السيد فعلياً آخر اللمسات على معارك الجرود القادمة، ولم يتوقف عن المتابعة، لا سيما في فصل الثلوج، فدأب على الاتصال اليومي عند كل عاصفة والسؤال عن وضع الإخوة والتموين والمسالك. في بعض الاتصالات كان يسمّي النقاط بأسمائها للاطمئنان أكثر. لاحقاً، في ربيع 2015، حصلت المرحلة الأولى من تحرير الجرود، لتتبعها المرحلة الثانية صيف عام 2017، في 28 آب 2017 كان البقاع على موعد مع احتفال التحرير الثاني.
لم يتمكّن السيد من الحضور الشخصي، كما كان يرغب، فاعتذر بحسرة، تماماً كما كان يرغب، وبشدّة، في حضور احتفال يوم الوفاء للأرض، في بعلبك أول من أمس.