ما بين عامي 2000 ــ 2006 استخدم السيد نصر الله مصطلح «الأمة» 900 مرة
حسام مطر
لا ينبغي أن نملّ من تفكيك سردية «الحرب المذهبية» في المنطقة، فكشف جوهر الصراع يعقلنه فإما يخضعه لمنطق التسوية وإما يستمر ولكن للأسباب الصحيحة. يحاجج قادة «محور المقاومة» بأن الصراع الإقليمي يدور حول قضية الاستقلال الوطني، فيما تحاجج نخبة «المحور الأميركي» بأنه صراع مذهبي مغلّف بخطاب مقاوم وتحرري.
تقوم المحاججة الثانية على «تسطيح التاريخ» وإزالة كل «تضاريسه» فتبدو المنطقة بأنها حُكمت منذ 1400 لمذهبين جامدين ومكتملين، الشيعة والسنة، يخوضان حرباً مقدسة مستمرة حول أحقية الخلافة. لماذا يصر هؤلاء على هذه الحكاية؟ نلفت بدايةً، أن المقال يفحص فقط كيفية مصادرة «الهوية السنّية» من بعض القوى الاقليمية ووضعها في إطار «سردية مذهبية» خدمةً لمشروع الهيمنة.
«نصرالله الرافضي» زعيماً للمسلمين!
هزّ انتصار حزب الله في عام 2000 وجدان الفرد العربي الذي من خلال تفاعله مع الحدث تلمّس مقداراً لم يعهده من الفخر والاعتزاز بهويته وكينونته، وخاصة أن الحزب قدّم الانتصار باعتباره انتصاراً عربياً وإسلامياً، فأصبح العربي أكثر وعياً للمهانة التي يعانيها بسبب النخبة الحاكمة. أثناء التغطية المباشرة لقناة الجزيرة لأيام تحرير الجنوب عام 2000 كان لافتاً قول الكثير من المتصلين: «صحيح حسن نصرالله رافضي ولكنه اليوم أمسى قائداً للأمة». التفت الباحث الإسرائيلي داني بروكوفيتش في كتابه «هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا: معركة إضعاف حزب الله» (2009) إلى الفجوة الهائلة التي بقيت تتسع منذ عام 2000 إلى ما بعد 2006 بين نظرة العرب لزعمائهم ونظرتهم للسيد نصرالله، «لم يسبق لزعيم شيعي آخر أن كسب هذا القدر من الاحترام العربي على الإطلاق»، يقول بروكوفيتش.
الوعي بالمهانة مصحوباً بشحنة من الإحساس العميق بالقدرة على خلق واقع جديد شكلّا تحدياً مباشراً لاستقرار النظام العربي. وما فاقم من هذا التحدي أن الانتصار كان بداية لاختلال متراكم في ميزان القوة الإقليمي. وبما أن قوة النظام الرسمي العربي تتحدد بشكل مباشر من خلال موقعها البنيوي داخل المحور الأميركي، فإن انحدار الأخير كان ينعكس مباشرة ضموراً في نفوذ وقوة هذا النظام.
ثم كان الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003، فسارعت الأنظمة العربية المستباحة أميركياً للاستثمار في المواقف إما الملتسبة أو الانتهازية لبعض الأطراف العراقية الشيعية التي نكّل بها نظام صدام حسين، لإحياء فكرة عمالة «الأقليات» ضد «الأمة» التي قُدمت باعتبارها أهل السنة. يمكن القول إن هذه هي السردية المذهبية الكبرى التي تناسلت منها مجمل الحكايات لاحقاً، وفي هذا السياق كان لا بد من استحضار ابن تيمية. مختصر هذه السردية أن «الشيعة» (كأقلية وازنة) بمعاونة الأقليات الأخرى يستفيدون من الأجنبي للقضاء على «الأمة السنية».
جرى رصد 20 قناة تلفزيونية متورطة في بث الكراهية المذهبية
ما راكمه حزب الله في المشروعية والنموذج والتجربة والقوة والتأثير والجاذبية والإنجازات، جعل مساهمته في الوزن النسبي لقوة محور المقاومة تحت مجهر الاستهداف الشامل للمحور الأميركي في ظل العجز عن المواجهة المباشرة مع إيران. ولما كان متعذراً تحييد حزب الله عسكرياً، لا سيما بعد عدوان 2006، كان لا بد من استراتيجية تسمح بنزع حزب الله من عقول وقلوب العرب فكانت الفتنة المذهبية الطريق الأسهل والأقرب في ظلّ طغيان البنى الاجتماعية المتخلفة في المنطقة. استراتيجية الفتنة المذهبية إذاً لا تنطلق من الحقد بل من اختلال ميزان القوى، أي أنها ممارسة واعية وهادفة وسياسية، هي توظيف عقلاني لمسألة غير عقلانية.
وكان يجري ذلك كلّه في ظل موجة عالمية لما يُعرف بـ«حروب الهويات»، والتي تذهب الكتابات النقدية فيها إلى استكشاف محورية «النخبة». النخب تعيد إنتاج الهويات لتوطيد سلطتها داخل الجماعة ومصالحها، ولتعزز التماسك الاجتماعي حول مشروع سياسي/ أيديولوجي، ولتمتّن الولاء، ولخلق كيان أحادي لا يُعرّف فقط من داخله بل من خارجه عبر خلق «آخر» نقيض وشيطنته. كان يُراد إعادة إنتاج المذاهب السنية على أنها «أمة» منسجمة متألفة، وهي لم تكن كذلك يوماً. بالأصل استُخدم مصطلح «أهل السنة والجماعة» لفرز المذاهب السنية وليس لتوحيدها.
منذ عام 2005 بدأ الأميركيون باستخلاص عِبر الفشل في «الحرب على الإرهاب»، وتمظهر ذلك في تحولين أساسيين. الأول تقديم الصراع الإقليمي على أساس أنه «صراع داخل الحضارة الواحدة» أي الإسلام وليس «صراعاً بين الحضارات». يعود ذلك إلى استخلاص الإدارة الأميركية أن جهودها لإيقاف صعود محور المقاومة بعد احتلال العراق قد باءت بالفشل، وأن هذا المحور كسر الستاتيكو القائم وانتقل إلى المبادرة الهجومية بثبات وخاصة مع فشل عدوان تموز 2006.
وفي عام 2007، نفذت إدارة بوش «نقلة استراتيجية» في الشرق الأوسط على مستويي الدبلوماسية العامة والعمليات السرية كما كشف سايمور هيرش (إعادة التوجيه: 2007). الاستراتيجية الجديدة تقوم على مواجهة أميركية مفتوحة ضد إيران عبر تعميق الصراع السني ـ الشيعي في بعض أجزاء المنطقة. «فالي نصر» أخبر هيرش أن هذا التحول «يشكل انتصاراً للخط السعودي». يقتبس هيرش عن مارتن انديك أن هذه المقاربة الجديدة ليست محصورة بالعراق فقط بل بكل المنطقة، متوقعاً أن «الشرق الأوسط يتجه إلى حرب جدية سنية ــ شيعية باردة».
التحول الثاني تمثل بضرورة وجود «وكيل إعلامي ثقافي» يضخّ الرسائل الأميركية إلى شعوب المنطقة بدل ضخها بأدوات إقليمية. وقد أصبح هذا ممكناً بما راكمته الإدارة الأميركية من علاقات بعد عام 2000 مع قادة الرأي وكتاب الأعمدة والمحررين ونقاد التلفاز والراديو والأكاديميين والصحافيين i.
«نصر العرب» 2006
من خلال تتبع خطابات السيد نصرالله، يبدو أن الحزب بدأ يدرك منذ عام 2006 بدايات نجاح الحملة الإعلامية ـ المذهبية المعادية له، وذلك نظراً إلى «أن إعلامهم أقوى من إعلامنا» (نصرالله: 2007). وبحسب دراسة للدكتور أحمد ماجد (2007) يتبين أن السيد نصرالله حذّر من الفتنة المذهبية وأدانها 74 مرة بين عامي 2000 ــ 2006. شعور الحزب بوطأة الحملات المعادية دفعت السيد نصر الله عام 2006 لمخاطبة النخب العربية المؤيدة للمقاومة: «في مسألة المقاومة نحن بحاجة إلى تعاونكم وتضامنكم وصوتكم ودفاعكم عن المقاومة في كل المحافل والمنتديات... يبنغي أن ندعم بعضنا البعض وأن ندرك أننا أمة واحدة وأننا جميعاً مستهدفون ويجب أن لا ندوس على الألغام السياسية التي يزرعها الأميركيون والصهاينة» (30 آذار 2006).
مع انتصار عام 2000 تحول الجمهور الإقليمي إلى هدف أساسي لرسائل حزب الله، إذ إن تحصين الانتصار وحمايته وتسييله استراتيجياً كان يوجب بيئة حاضنة تتجاوز الجمهور اللبناني. ورغم محاولات حزب الله بعد عام 2003 مخاطبة الجمهور العالمي، إلا أن الجمهور الإقليمي كان له الأولوية. ما بين عامي 2000 ــ 2006 استخدم السيد نصر الله مصطلح «الأمة» 900 مرة (ماجد: 2007). فالرأي العام الإقليمي أكثر أهمية للحزب الذي ينبغي أن يصل إلى هذا الجمهور ويقدّم له الأدلة ويثبت له مصداقيته وينخرط معه بهدف جعله جزءاً من مشروع المقاومة، بحسب الشيخ نعيم قاسم (كتاب حزب الله: الطبعة السادسة، ص 43).
شكّل انتصار عام 2006 فرصة لحزب الله لامتصاص التوتر المذهبي الذي تلا عام 2003، ولذا تضاعفت جهود الحزب للوصول إلى فئات أكبر من الجمهور العربي. فركز الحزب على تقديم الانتصار باعتباره «نصر العرب»، وشملت الحملة الإعلامية الاحتفالية صوراً ورموزاً مفعمة بالعروبة والحنين للحقبة الناصرية (Pete Ajemian: 2008). هدفت الحملة إلى كسر الخطاب الانهزامي السائد في العالم العربي منذ 1967 وفتح حقبة جديدة من الاقتدار العربي ii وتثبيت صيت حزب الله كبطل عربي يحرر الشعور العربي بالكرامة iii.
يلاحظ فالي نصر (2008) أنه «في لبنان، ليس حزب الله هو من ادّعى أن الحرب ضد إسرائيل هي لعبة قوة شيعية، بل الحكومات العربية قدمتها على هذا الشكل. رجال الدين العرب هم من أعطوها هذا الاسم، بينما يفضل الإيرانيون التركيز على العداء لإسرائيل. إذاً كلا المحورين يتنافسان على تعريف الصراع».
إعادة إنتاج الصراع باعتباره مذهبياً كانت تحتاج إلى أدوات «محلية» من طينة المنطقة، فبدأت قنوات الكراهية المذهبية بالظهور مترافقة مع صعود إمبراطوريات إعلامية خليجية والتي كانت بشكل واضح صديقة لواشنطن ومعادية لحزب الله وإيران وأي مجموعة أخرى تتحدى السطوة الأميركية في العالم العربي كما لاحظ اندور هاموند (2007).
كانت السعودية الأكثر حضوراً في إعادة تشكيل المشهد الإعلامي من خلال نفوذها العميق في الأجندات الإعلامية المحلية والإقليمية عبر شراء حصص أو تقديم دعم مالي مباشر أو من خلال التحكم بسوق الإعلانات. وهذا يُلاحظ أن السعودية نفسها بدأت تعتمد على وكلاء محليين من داخل البلاد التي سعت لبث رسائل إلى مواطنيها. وكما يحاجج هارمن وتشومسكي (1988) فإن «المال والسلطة لديهما القدرة على تصفية الأخبار المناسبة للنشر وتهميش المعارضة والسماح للحكومة والمصالح الخاصة المهيمنة بإيصال رسالتهم إلى الجمهور». وهذا ما يفسر لماذا جارى الإعلام العربي إلى حدّ بعيد الحملة الإعلامية السعودية ضد إيران.
أقلمة الخطاب الأميركي
بدأ الخطاب العربي المعادي لحزب الله يأخذ منحى التطابق مع الخطاب الأميركي الذي يقدّم حزب الله باعتباره حركة إرهابية وإجرامية تعمل كوكيل لمشروع الإمبراطورية الإيرانية لتحقيق هيمنة شيعية على الشرق الأوسط. على سبيل المثال، اعتبر فليتمان (2010) أن حزب الله «يدعي أنه يحتفظ بسلاحه بهدف الدفاع عن لبنان بوجه العدوانية الإسرائيلية ويستمد أغلب شعبيته من صورته كحركة مقاومة. في الحقيقة، يستخدم حزب الله بفعالية الصراع مع إسرائيل بهدف اكتساب شعبية إقليمية ولتبرير تسلحه الهائل وللتصرف كنقطة نفوذ لصالح إيران في الإقليم».
لنلقي نظرة خاطفة على كتابات طارق الحميد، رئيس التحرير السابق لصحيفة الشرق الأوسط، حول حزب الله بين 2005 و2011، أي قبل بداية الأزمة السورية. خلال حرب 2006 دعا الحميد إلى «تجاهل خطاب حسن نصرالله بأن حربه هي حرب الأمة، هذه كذبة، إنها حرب إيران». وبعد أحداث 7 أيار 2008، اعتاد على وصف ما حدث «اجتياح حزب الله لبيروت». وقد استخدم هذه الحادث المحدود للمحاججة إنها «نهاية أسطورة حزب الله» وليلوم العرب على تصديق «كذبة مقاومة حزب الله... حتى نحن نعلم أنها كذبة». وصلت الحال بالحميد إلى كتابة «تحليل» في تموز 2008 بأنّ حزب الله يسلح العلويين في شمال لبنان ضد السنة بهدف إطلاق صراع مذهبي ليمتد إلى سوريا وذلك لمعاقبة النظام السوري لأنه كان يتفاوض مع إسرائيل حينها.
بات من المعتاد سماع شخصيات صهيونية تتحدث عن الخطر «الشيعي» على «السنة»
ببساطة يكرر صحافيو ومثقفو الإعلام الممول خليجياً النص الحرفي الأميركي بخصوص حزب الله لكن بلغة عربية رشيقة ونفحة ثقافوية. استقصى بلال حسن بعمق، في كتابه «ثقافة الاستسلام: قراءات نقدية» (2005)، كتابات كتاب ليبراليين بارزين في صحف خليجية، مثل حازم صاغية وعفيف الأخضر وصالح بشير واستخلص أن هؤلاء يشكلون نظاماً فكرياً يسعى لتشريع الهيمنة الأميركية من خلال تدمير الثقافة العربية. هذا الاتجاه الليبرالي «التبشيري» الصاعد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم ينجح باختراق البيئات العربية كونه شديد النخبوية ويتصادم مع المكونات الصلبة للهوية. فجاء خطاب الكراهية المذهبية كتعويض عن ذلك الفشل، ثم وصلنا إلى تكامل الخطابين، الدعوة للتسوية مع أميركا وإسرائيل كخيار «حداثي عقلاني» وكضرورة لمواجهة «الشيعة».
التأطير الإعلامي العربي، الممول خليجياً والموجه أميركياً، بخصوص حزب الله يركز على نشر الخوف وإشاعة الشك من نواياه التي تُقدم على أنها معادية لهوية السنة العرب بالمقام الأول. بالنتيجة سيتحول خطاب المقاومة في التصور الشعبي إلى مجرد غطاء لجذب العرب وإخفاء أهداف الحزب الحقيقية للهيمنة على السنّة والذي هو هدف إسرائيلي أيضاً. رافق هذه الحملة الإعلامية ضد محور المقاومة تحفيز للتوتر المذهبي بين السنة والشيعة وشيطنة الشيعة، بالتزامن مع تقديم إيران وحزب الله كقوى محض شيعية لا مشروع لها خارج الطائفة وهو ما يؤدي تلقائياً إلى شيطنة الحزب وإيران.
تمحورت جهود الإعلام الممول خليجياً على تشكيل الإدراك العربي لحزب الله من خلال ثلاثة أطر كبرى: المذهبي والوكيل لإيران والميليشيا. كل من هذه الأطر تحوي على عناوين دأب الإعلام على بثها بكثافة لوصف وتقديم حزب الله أو شرح سلوكه. الأطر الإعلامية لها وظيفة بيانية وجزء من استراتيجية للمحاججة العامة (Craig O. Stewart) وتحفّز تفسيرات معينة تؤثر بدورها في تقييم المتلقي للمسألة موضع السجال (Robert Entman). بالنتيجة الفائزون في منافسة «التأطير» لديهم الأفضلية تالياً لتحديد شروط المحاججة (Neta Crawford). فالأطر الإعلامية تعمل «كحُزم تفسيرية» تساعد في تشكيل الاعتقاد من خلال تقديم تعريفات معلبة للمسائل، وفي بناء المعنى الاجتماعي لها (Stephen Reese).
الإطار المذهبي يعزّز من سردية أن حزب الله لاعب شيعي لا إسلامي يضمر العداء للسنّة ويسعى لمهاجمتهم أو تهميشهم أو يسعى لتشييعهم. إطار «الوكيل لإيران» يقوي سردية حزب الله كأداة لمشروع الإمبراطورية الإيرانية، فيصبح الحزب مجرد مؤامرة إيرانية لاختراق العالم العربي وتدميره من الداخل. أما إطار الميليشيا، فيتيح لأعداء الحزب أن يقدموه كلاعب إجرامي وإرهابي يعمل كدولة داخل الدولة.
الكراهية المذهبية: تغريز الهوية
بعد عام 2003 تعمّقت الأدبيات الأكاديمية الأميركية في النظر إلى المسألة الشيعية ــ السنية ليس من قبل التحليل والفهم والتفسير فقط، بل من باب ترويجها كمتغير مستقل وجوهراني وغير قابل للتجاوز في الصراع الإقليمي. وصل الأمر إلى حدّ أنك تعجز عن التمييز بين الخطاب الوهابي والخطاب الأميركي وحتى الإسرائيلي بخصوص السردية المذهبية. بات من المعتاد سماع شخصيات صهيونية تتحدث عن الخطر «الشيعي» على «السنة». من المؤكد بالدلائل أن خيار تفجير الصراع المذهبي في المنطقة مثّل تقاطعاً أميركياً سعودياً لاحتواء صعود محور المقاومة وتفجيره من داخله.
التحريض المذهبي المؤامرتي الأميركي تفضحه إحدى وثائق ويكيليكس (ID: 06DAMASCUS5399) صادرة عن السفارة الأميركية في دمشق عام 2006. تدعو الوثيقة إلى استغلال ما تقرّ أنها «المخاوف المبالغ بها جداً» من جهود إيرانية لتشييع السنة في سوريا. توصي الوثيقة الإدارة الأميركية بالتعاون أكثر مع الحكومتين المصرية والسعودية والقيادات السنية السورية البارزة حول الوسائل الممكتة لترويج وجذب الاهتمام الإقليمي لهذه المسألة، بهدف تحفيز التوترات المذهبية لعزل إيران وإضعاف النظام في سوريا. فبركة تهديد نشر التشيع ليس عبثياً، ففي البيئات المشحونة أيديولوجياً وغرائزياً يشكل تهديد الهوية استفزازاً أكثر من تهديد الجسد.
الترويج لـ«نشر التشيّع» وضمناً ما يسمى سبّ الصحابة، يهدف لإشاعة إحساس جمعي بأن الهوية السنّية تتعرض للفتك كهوية خاضعة ومنتهكة، وهذا ما يُفترض أن يدفع «السنّي العادي» لإعادة توجيه غضبه بعيداً عن نظام بلده الاستبدادي المحط لكرامته الإنسانية نحو إيران وحلفائها لخدمة دور الوكالة لنظام بلده. وقد وصل الأمر باتحاد علماء المسلمين (القرضاوي) إلى إرسال «لجان تقصي حقائق» تجول أفريقيا وإصدار تقرير من 752 صفحة عن «التشيّع في أفريقيا» (2011). استثمرت السعودية مذهبياً في فشل التنمية العربية، في بيئات لا تميز الشيوعي من الشيعي، في بيئات يائسة ومجهلة ومغيبة، وفتحت «صندوق باندورا» الغرائز.
تبرز إحدى الاستثمارات السعودية في صعود ظاهرة القنوات الدينية التي تهدف لنشر الكراهية المذهبية. في عام 2014 أنتجت قناة «بي بي سي عربي» فيلماً وثائقياً عن هذه القنوات بعنوان «أثير الكراهية». من أصل 120 قناة دينية نشطة في العالم العربي، جرى رصد 20 قناة متورطة في بث الكراهية المذهبية. أجرت القناة تحليل مضمون لأكثر ست قنوات تطرفاً منها على مدة ستة أشهر، ووجدت أن القنوات «السنية» كانت تبث من لندن ومصر فيما تمولها وتديرها شخصيات خليجية. وفي المقلب الآخر كانت القنوات «الشيعية» تبث من لندن والولايات المتحدة والعراق من دون أي أثر لحزب الله أو إيران. وقد التفت معدّ الوثائقي بتعجب إلى كون لندن مقراً بارزاً لهذه القنوات. يُصعق المعد حين يخبره أحد مقدمي «صفا» (بدأت البث عام 2009) أن «الشيعة هم سرطان استشرى في جسد الأمة، وإن كانت الطائفية هي الحل فلتكن». ثم مع عام 2009 تقريباً وصلت موجة شبكات التواصل الاجتماعي إلى المنطقة. وبعد أن كان الانترنت نخبوياً أصبح شديد الشعبوية خاصة بعد 2011 مع بدء موجة الهواتف الذكية. أصبحت البيئات الأكثر انغلاقاً وأمية بشكل مفاجئ تحت وطأة ضخ معلوماتي هائل من دون أيّ آليات ذاتية للتحصين والفلترة والنقد والتدقيق. في نيسان 2015 أجريت تحرياً سريعاً على موقع «يوتيوب»، فتبيّن أن عبارة «حزب اللات» وردت في ثلاثين ألف عنوان، وعبارة «حزب الشيطان» وردت في خمسة وثلاثين عنواناً، و«نصر اللات» ستة عشر ألف مرة، وعبارة «الروافض» مئة وعشرين ألف مرة.
بدأت الأمور تأخذ المثال الآتي: يصل فيديو يروّجه حساب سلفي إلى هاتف شاب «سنّي» مهمش اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً في بلد عربي، يلفته عنوان الفيديو: «مرجع شيعي يشتم الصحابة وأمهات المؤمنين». المرجع الشيعي لا يعدو واقعاً أن يكون شيخ شيعي معزول مقيم في لندن لا يتجاوز مريدوه العشرات أو المئات. الشاب «السنّي» سيعتبر أن الفيديو يمثل الشيعة، وهو لم يسمع بفتاوى التقريب لدى مراجع الشيعة وقادتهم الكبار، الإمام الخامئني والسيد السيستاني والسيد فضل الله والسيد نصر الله وسواهم. ليلاً يسمع الشاب الريفي نشرة إخبارية عن عمالة الشيعة وكفرهم «وارتكاباتهم» بحق السنة ونسائهم. وفي يوم الجمعة التالي يسمع خطبة شديدة الانفعال العاطفي والتحريضي ضد الشيعة. بعد ستة أشهر، الشاب المسلوب الكرامة في وطنه، يفجر نفسه في سوق شعبي مكتظ في بغداد. هذه ليست قصة شاب بل قصة جيل من العرب.
أتاحت شبكات التواصل الاجتماعي بشعبيتها وسهولة توظيفها، استغلالها كمنصة فاعلة لنشر الكراهية المذهبية في الشرق الأوسط. تتبّعت «جنيف عبده» كيف قامت شخصيات سلفية بارزة كالعريفي والعرعور باستخدام تويتر لتعبئة السنة ضد الشيعة وإيران وحزب الله من خلال نشر خطاب غير متسامح ويحث على كراهية الآخر. ووجدت الباحثة أن من ثلث إلى نصف التغريدات كانت تضمن إحالة دينية إلى صراعات تاريخية بين السنة والشيعة iv.
في عام 2015 أجرت الكساندرا سيغيل بحثاً حول الخطاب المذهبي على تويتر، ووجدت أن الخطاب المعادي للشيعة أكثر شيوعاً بكثير من الخطاب المعادي للسنّة. إلا أن الأبرز والأهم، تمثل في أن الخطاب المعادي للشيعة جرى ضخّه من مغردين مؤثرين ممن لديهم ملايين المتابعين يعاودون التغريد، وأغلب هذه التغريدات المعادية للشيعة كان مصدرها السعودية v. أي أن هذا الخطاب كان موجهاً ومبرمجاً بينما كان أغلب الخطاب المعادي للسنة يأتي من حسابات غير مؤثرة. يلاحظ فالي نصر (2008) أن «الإيرانيين يعلمون أن المسألة السنية الشيعية مشكلة لهم ولهذا تحديداً تستثمر القوى المناهضة لإيران بسخاء في الحرب المذهبية، سواء في جنوب آسيا – باكستان أو أفغانستان – والعراق وفي الموجات الهوائية والانترنت».
نختم هذا القسم بملاحظتين ضروريتين أشار إليهما الدكتور عبد الحليم فضل الله في معرض نقاش خاص. الأولى تتعلق بانضمام قنوات إعلامية من الخط الأساسي (mainstream) بعد 2011 إلى حملات الكراهية والتحريض بل التطهير المذهبي (كما يفعل فيصل القاسم). وذلك يعني أن هذا الخطاب، بحسب ما يُلاحظ فضل الله، امتد من الإعلام الهامشي ذي الوظيفة المحددة والمباشرة إلى إعلام الخط الرئيسي الذي يُفترض أنه يخاطب جمهوراً متنوعاً ومنفتحاً. والملاحظة الثانية أن هذا الخطاب المذهبي كان يتجاوز تعبئة السنّة فقط، بل كان يبغي أيضاً تعبئة «الهوامش الشيعية» أي تلك التي خارج تأثير محور المقاومة. دفع «الهوامش الشيعية» نحو التوتر المذهبي يؤدي إلى تحدي خطاب «الوحدة الإسلامية» داخل «المركز الشيعي» والضغط عليه واختراقه تدريجياً. وهذا بدوره يؤدي إلى حلول «التطرف المذهبي» مكان أيديولوجيا المقاومة لدى الشيعة من ناحية، وإلى إعادة شحن «السنَة» من ناحية أخرى.
خاتمة
يمكن ملاحظة أن السبب الرئيسي لنجاح هذه الوسائل المذهبية يكمن في أسلوب التواصل المعتمد والشبيه بأسلوب بن لادن الذي، بحسب خبراء، استخدم «صوراً بسيطة واستعارات تطرب العوام غير المتعلمين، ويجري إحالات إلى مرجعيات تاريخية في إقليم غارق في التاريخ. وهو، أي بن لادن، سخّر قوة الرموز الدينية التي تؤدي دور الترتيلة الدينية لاطلاق شرارة جمهوره نحو العمل».
يستخدم محور المقاومة رموزاً دينية ذات دلالة مذهبية اجتماعياً في سبيل إثبات الهوية والتعبئة والتعبير عن الذات، إلا أن أدبيات هذه المحور تخلو من أي دعوة للكراهية المذهبية أو تعريف مشروعه السياسي بمعيار مذهبي إقصائي، بل العكس تماماً. لا يمنع ذلك من تسرب سلوكيات مذهبية إلى القواعد الشعبية وصعود تعبيرات مذهبية انفعالية، كنتيجة لواقع الاحتقان والصدام والاقتتال. إلا أننا نقرأ سلوك وخيارات النخبة، التي لا تزال تصر على تقديم الصراع الإقليمي بتعبيرات سياسية، بل وصل الأمر بالسيد نصرالله مراراً إلى مخاطبة «التكفيريين» يدعوهم للمراجعة.
هذه ليست حروب أوروبا الدينية، والأزمة ليست في عمقها دينية، بل في تحولات يعاني منها نمط الإنتاج النيوليبرالي المعولم وضمور في قوة الإمبراطورية العالمية وفي فشل وكلائها الإقليميين في إقامة بنى محلية مستدامة ومنتجة تعزز الشراكة والانتماء. الاستجابة لهذه التحولات تأخذ شكل الاستثمار والتوظيف في المعضلات والترسبات والتراث الديني. وبما أننا اليوم في عالم ميزته تعاظم احتمال نجاح أحداث صغيرة في دفع منظومات معقدة إلى الانقلاب من حال إلى حال، وهي ما يسميه مالكوم غلادول «نقطة الانقلاب»، فإن التوتر المذهبي لن يمنح الأنظمة الإقليمية المنتجة له إلا بعض الوقت الإضافي قبل أن تنفجر تناقضاتها الداخلية بشكل كارثي ومباغت.
(*) باحث لبناني
المراجع
i. Report of an Independent Task Force, Finding America’s Voice, 2003, pp.8-15
ii. Walid El Houri, the Meaning of Resistance: Hezbollah’s media strategies and the articulation of a people, PhD Thesis, University of Amsterdam, 2012, p.169
iii. Lina Khatib, Dina Matar, Atef Alshaer, The Hezbollah Phenomenon: Politics and Communication, Oxford University Press, 2014, p.72
iv. Geneive Abdo, Salafists and Sectarianism: Twitter and Communal Conflict in the Middle East, Brookings Institute, 2015
v. Alexandra Siegel, Sectarian Twitter Wars: Sunni-Shia Conflict and Cooperation in the Digital Age, Carnegie Endowment, Dec.20, 2
المصدر: صحيفة الأخبار