حبيب فياض
بمناسبة عيد «المقاومة والتحرير»، يصبح التنظير الفكري حول ظاهرة مثل المقاومة الإسلامية في لبنان، ضرورة مستمدة، أولاً، من الحاجة إلى تظهير النسق الاعتقادي الذي تنتمي إليه والمحددات النظرية التي أنتجت خصوصيتها وحكمت مسارها وأداءها، وثانياً من لزوم العمل على ردم الهوة المفتعلة بين هوية هذه المقاومة المعرضة للشيطنة والتشويش، وواقعها الذي غير في مجريات التاريخ المعاصر، بما قد يؤدي في نهاية الأمر إلى الكشف عن التكامل والمحاكاة بين المنطلقات والأهداف، من جهة، والمنجزات من جهة ثانية.
وإذا جاز لنا إسقاط تصنيف الظواهر الكلاسيكية على المقاومة، لجهة كونها ظاهرة معرفية، وميزنا في حيثياتها بين ما هو نظري وما هو تطبيقي، سنجد أن المقاومة التي بلغت أعلى درجات النجاح في الجانب التطبيقي (الانتصار والتحرير)، ظلت تفتقد في جانبها الآخر إلى التأسيس لمنجزها الفعلي عبر تنظير فكري يستبين معه عمق الخلفية النظرية التي شكلت على الدوام المحرك الأول لفعل المقاومين، والضمانة لتحقيق النصر برغم وعورة الواقع وتعقيداته.
فالمقاومة التي لم تكن قط وليدة فراغ نظري، وهي التي التزمت منذ البداية حتى اللحظة بموجّهات فكرية وعقائدية تتسم بالعمق والشمول والقدرة على خلق الحيويات، هذه المقاومة بحاجة اليوم إلى الخروج من حالة الاحتجاب والاستتار الفكري، وتحويل النظري الكامن لديها إلى تنظيري مشهود في إطار بنية فكرية تأخذ مكانها في عالَمَي الفكر والثقافة كما هو حالها ـ أي المقاومة ـ في عالمَي السياسة والإعلام.
وبما أن المقاومة جزء من رؤية كونية تطال الحياة ببعديها الدنيوي والأخروي، ومن الوجود بشقيه الواقعي والماورائي ـ من دون أن يتعارض ذلك مع خصوصيتها اللبنانية وأهدافها الوطنية ـ فإن العمل على تظهير بنيتها النظرية وتحديد عناصرها وموقعيتها في سياق هذه الرؤية يصبح أكثر ضرورة، خاصة أننا نعيش في عالم تحركه النظريات والفلسفات، وتخاض فيه الحروب وترسم فيه الاستراتيجيات على هذا الأساس («صدام الحضارات» عند هانتغتون و»نهاية التاريخ» عند فوكوياما مثلاً).
وقد يصح القول إن التنظير الفكري للمقاومة ليس من مهامها، بل من مهام المثقفين المحيطين بها والمنتمين لبيئتها. غير أنه يجب الاعتراف ـ ومن قبيل النقد الذاتي والبناء ـ بأن حزب المقاومة لم يولِ الأهمية المطلوبة لإنتاج نخب مفكرة وديناميات بحثية تتولى ربط المنجزات العملية للمقاومة بأصولها النظرية، وإعادة تقديمها فكرياً بما هي فعل تاريخي وحضاري، بحيث ظلت الفعالية الثقافية المواكِبة للمقاومة مقتصرة على التربية الروحية والخطاب التعبوي المباشر والإعداد الثقافي الداخلي ـ وهي أمور مطلوبة في كل حال ـ من دون بلوغ مستويات الاحتراف الفكري والتعميق الثقافي.
يُضاف إلى ذلك أن التنظير للمقاومة من قبل المفكرين والمثقفين الذين ليسوا جزءاً من نسيجها الفكري والاعتقادي، قد يكون ـ على أهميته وضرورته ـ أقل قدرة في التعبيرعن حقيقتها والكشف عن كل أبعادها، ذلك أن المقاومة بالدرجة الأولى عبارة عن تجربة خاصة ـ بحسب الفهم الفلسفي والعرفاني للتجربة ـ لا يمكن الإمساك بعناصرها النظرية الخبيئة والوقوف على بنيتها العقائدية من دون معايشتها تجريبياً أولاً، ومقاربتها فكرياً من الداخل ثانياً، ما يعني بقاء أي مقاربة لها من خارج بنائها الفكري والروحي، منقوصة ومجتزأة.
لقد تخصصت «المقاومة الإسلامية» في تسييل المعتقد الديني عبر تحويلها الفعل المقاوم إلى تمظهر له والتزام به. لكن ثمة، بين هذا وذاك، منطقة فراغ تنظيرية ما زالت قائمة ولا بد من العمل على ملئها من خلال إعادة إنتاج المعتقد على شكل اتجاه فكري، يتكفل بإخراج أيديولوجيات المقاومة من حالاتها الجوانية الخاصة إلى سياقات معرفية عامة ومفتوحة على مديات تتجاوز البيئة الحزبية. إذ يجب العمل على بلورة وتظهير الخلفية العقدية والإيمانية والوطنية للمقاومة وفق منظومة معرفية مع مراعاة كل ما تحمله ضرورات المزاوجة بين الأيديولوجيا والمعرفة، والجمع بين خصوصيات الذات والشراكة مع الآخر.
وفي هذا المقام، يمكن استدعاء علم «الكلام الجديد» بوصفه إطاراً نظرياً صالحاً للتعامل مع المقاومة منهجياً ومعرفياً من خلال مهام هذا العلم الموزعة بين حدي الايديولوجيا بهدف الإيمان والإقناع، والابستمولوجيا بغية التبيين والتواصل، من دون أن تغيب بين الحدين مهمة الدفاع الفكري، الهادفة إلى التثبيت ورد الشبهات والمغالطات. إن أولى خطوات التنظير الفكري للمقاومة تكمن في الانتقال من التعامل النظري معها ـ بما هي منعطف تاريخي ـ من حالة التأريخ بالأحداث إلى حالة التأريخ بالمفاهيم، حيث يتكفل ذلك بالخروج من الجزئي إلى الكلي، ومن الحكاية التاريخية (الوصفية) عن الشيء إلى صناعة التاريخ والإمساك بناصيته، وبالتالي، الارتقاء بموضوع المقاومة من حيث هو موضوع تأمل ودراسة، وبوصفه منتجاً للمعرفة وملهماً للأفكار، إلى مصاف الفلسفات التي لا تكتفي بالوقوف عند وجه الظاهرة، بل تتجاوزه إلى كنهها القابل للنمذجة والديمومة والتعميم.
تستطيع المقاومة أن تثبت فعاليتها الراهنة وحضورها المستقبلي من خلال فعلها المرتبط بالحدث، غير أنها ستكون قادرة عبر المفاهيم الكلية المستخلصة من حراكها على ضمان معياريتها التاريخية، تماماً كما هي الحال بالنسبة لواقعة كربلاء - التي اتخذت المقاومة منها معياراً ومثالاً- حيث استحالت أحداثها إلى مفاهيم كلية تتجاوز الجزئيات التاريخية ـ على أهميتها ـ وتختزن في عمقها، على نحو أتم وأكمل، كل الوقائع التاريخية المشابهة لها والحاملة لقيمها من قبيل التضحية والعزة والإيثار والشهادة.
إن ما يستدعي إسباغ سمة الكليانية على المقاومة وتأطيرها في سياق منظومة معرفية متكاملة هو خضوعها عمليا لثلاثية نظرية هي: الوحي (الدين) والعقل (الحكمة) والتجربة (الجغرافيا والتاريخ)، بحيث أن هذه الثلاثية شكلت مرجعية للمقاومة أفضت إلى نجاحها غير المسبوق، وحكمت أداءها التفصيلي والعام، بنحو يستوجب تفكيك هذه الثلاثية وإعادة تركيبها وتظهيرها بما يؤدي إلى جعل الوجه النظري للمقاومة مواكبا لمنجزها العملي.
لقد وفرت المقاومة بأبعادها الجهادية المباشرة (العسكرية والأمنية) وغير المباشرة (المجتمعية، الإعلامية، الثقافية و...) معطيات خصبة لإنتاج فكر لاهوتي - تحريري معمق، يمكن معه تجاوز الإشكاليات المنهجية ذات الصلة بجدلية الفكر والواقع، وأسبقية النظري والعملي، ذلك أن فرادة المقاومة تقوم أساساً على الجمع بين مثالية فكرية تنتج الواقع وواقعية خصبة منتجة للفكر، بشكل يتماهى فيه ما هو كائن مع ما يجب أن يكون. إن الاهتمام بالجانب الفكري من المقاومة يضعها أمام أفق الانتقال من الفعل المرتبط بأبعاد سياسية راهنة إلى مشروع إنساني مرتبط بمقدمات النهضة الحضارية المتمثلة بدرء الخطر الخارجي، وصولا إلى النتيجة الكامنة في صناعة الإنسان والبناء والتنمية.
المصدر: صحيفة السفير