تشبك إحدى السيدات يدها بيد ابنتها وتمضي مسرعةً خلف جثمان القائد الجهادي في «حزب الله» مصطفى بدر الدين، أثناء تشييعه، أمس، في قاعة «الحوراء زينب» في الغبيري بالضاحية الجنوبية. تتقدم بلهفة وهي تشق منفذاً ضيقاً بين الحشود. ترفع يدها وتلوّح للنعش الذي لُفّ بعلم الحزب، وتصرخ «الله معك يا بطل، سلّم على علي». السيدة التي اتشحت بالسواد وزيّنت عُنقها بشال أصفر اللون، أم شهيد روى بدمائه أرض سوريا.
تصرخ الوالدة المفجوعة «بوّس لي علي يرضى عليك»، فتنهمر دموع النسوة المجتمعات حولها. تحاول إحداهن استجماع قواها وثنيّهن عن النحيب، فتقول لهن «لا يجب أن نبكيه، فلطالما طلبت نفسه الشهادة. ألم يقل لن أعود من سوريا إلا مستشهداً أو رافعاً راية النصر؟». تشخص إليها الأعين الحزينة، فتأمرهن من دون تردد «يلّا زغردنّ للشهيد».
في وداع «ذو الفقار» كان الوجع مضاعفاً. إلا أن تكرار الفاجعة لم يقوَ على مناصري الحزب بإخضاعهم على اعتياد المعاناة. بل على العكس، التضحية في سبيل دمشق وفلسطين وأرضهما تزيدهم ثباتاً. بالأمس حضر من عرف الشهيد ومن لم يعرفه.. من اطلع على انجازاته في الميدان ومن غاب عنها. الكلّ ردد «لبيّك يا نصر الله» وهتف «هيهات منّا الذلّة». ساروا خلف «الرادود» الذي ألهب مشاعرهم.
عباس، الذي اتكأ إلى جانب صديقه على حافة سيارة النقل المباشر التابعة لإحدى محطات التلفزة، كرر السؤال مراراً: «نحن مخروقون أمنياً؟». لم يصدح في الأرجاء صوت يجيبه عن سؤاله، فأردف، وهو يعصّب جبينه بمنديل خُط عليه «يا زينب»: «هناك عملاء إذاً. وإلا لما كان الحزب تكبد خسارة تلو خسارة». وحده، الشيخ المُعمم الذي تبدت إلى مسمعه أطراف الحديث، أطاح بشكوك الشاب، قائلاً: «استشهدوا كل القادة؟ طيب، في كربلاء استشهدوا مش بس القادة»، مضيفاً: «هذا ما قاله السيد نصرالله يوماً ما».
«ربما كان من الأفضل لو استشهد في القتال ضد العدوّ الإسرائيلي»، يردد أحد المشيعين. فينتفض صديقه «لا فرق بين العدوّ التكفيري والعدوّ الصهيوني. المعركة معركة وجود». تكثر الأسئلة المحيّرة. أحدهم يسأل عن ملف المحكمة الدولية والاتهامات التي أُلصقت بـ«القائد»، وآخر يسأل عن السبب الذي حال دون إلقاء كلمة للسيد حسن نصرالله.
قبيل لحظات من خروج جثمان «السيد ذو الفقار» من القاعة إلى مثواه الأخير في روضة الشهيدين، حيث دلَفَ النعش إلى مستقره بالقرب من المكان الذي يرقد فيه القائد الشهيد عماد مغنية، ساد صمت بين السيدات. «أفكر بتلك المرأة»، قالت إحداهن كاسرةً جليد الأسى المُتغلغل في نفوسهن. وأضافت وقد استقرت عيناها على صورة الشهيد مرفوعة على حائط أحد المباني، «هناك امرأة خسرت زوجها وابنها وأخاها، ولم ترَ إلا جميلاً». تلك المرأة الصابرة الصامدة، زوجة العماد ووالدة الجهاد وشقيقة بدر الدين، باتت ملهمة الأمهات والحبيبات والزوجات والشقيقات. أيقونة السَلوَة. مثال طول الأناة. امرأة تذوّقت مرارة الوداع مرات ثلاثا، ونقلت ثلاثة «غوالي» إلى محطة النهاية بعدما عبدت طريقهم بالورد والأرز والطيب.
بالأمس، كان أكيداً أن الأغلبية من المشيعين لا يعرفون الشهيد معرفةً لصيقة، لاسيما أن الغموض لطالما سيّج حياته. إلا أنهم تعلقوا بصورته ووثقوا بضحكته التي سبقته إلى «الروضة»، حيث استقر ليرتاح بعد طول نضال.