علي شهاب
«لا وقت لدّي للنوم..عدوي لا ينام».
بالأمس، قرر أعداء مصطفى بدر الدين اغتياله. على غير المنوال المعهود في نوع كهذا من عمليات الاغتيال، ليس التشخيص الاستخباري هو الأهم هذه المرة، ولا حتى الجهة المنفّذة. الأهم هو التوقيت والسياق العام للحرب في سوريا.
لكن الخوض في هذه النقطة يتطلب ترقّب المواقف خلال الساعات المقبلة كون ما يترتب من تداعيات عقب عملية الاغتيال هذه، يتجاوز حدودها الجغرافية.
وسط ضبابية المشهد، ثابتة وحيدة: كان مصطفى بدر الدين عقلاً مقاوماً من الطراز الرفيع.
يُجمع العارفون بـ «السيد ذو الفقار» على امتلاكه طاقة ونشاطا استثنائيين، يعززهما عقله العلمي (حائز على شهادة الدكتوراه) وذاكرته المتقدة.
طوال 35 عاماً من العمل المقاوم، دمغت القدرات الذهنية لبدر الدين الملفات والمسؤوليات التي تولاها، على تنوعها من الميدان الى المكتب. ولم تمنعه اصابته المبكرة ابان التصدي للاجتياح الاسرائيلي عند مشارف خلدة في العام 1982 عن المشاركة لاحقاً في قيادة المعارك على الأرض كما كان يحصل أخيراً في سوريا.
وبغضّ النظر عن تفاصيل ما جرى في دمشق، ليل أمس الأول، فإن اسرائيل لا يمكن أن تكون الا مسرورة للتخلص من خصم أتقن فن «إزعاجها» طوال مسيرته الجهادية الحافلة.
كانت اسرائيل تشعر أنها مكبّلة بعد اتفاق نيسان 1996. شهدت السنوات الثلاث بعد عدوان «عناقيد الغضب» صعوداً نوعياً في عمليات المقاومة الاسلامية في الشريط المحتل. قرر ايهود باراك يومها الخروج من قيود الاتفاق باستهداف محطات الكهرباء في لبنان بهدف جرّ المقاومة الى الردّ وافتعال مواجهة تعيد صياغة اتفاق وقف اطلاق النار بما يلائم المصلحة الاسرائيلية. كان المستوطنون في شمال فلسطين المحتلة قد دخلوا بالفعل الى الملاجئ استعداداً لرد حزب الله. مرَّ اليوم الأول والثاني والثالث.. مرَّ الأسبوع الأول.. والمقاومة على صمتها التام. كان «ذو الفقار»، الذي كان يشغل حينها منصب القائد العسكري للمقاومة، يقرأ جيداً في عقل باراك. اضطرت الحكومة الاسرائيلية في النهاية الى اخراج المستوطنين من الملاجئ. عندها أعطى «ذو الفقار» الأمر بإطلاق «الكاتيوشا». انقلب السحر على الساحر. علقّ يومها باراك بالقول: «انك تحتاج الى رأس يدور في جميع الاتجاهات لتعرف ماذا يريد أن يفعل حزب الله».
في فترة التسعينيات، كانت الوحدة العسكرية تخضع للقيادي المقاوم «ذو الفقار».
كانت المقاومة قد بلغت ذروة أعمالها النوعية آنذاك وبدأت في احتراف الحرب النفسية الحقيقية. ليس المقصود هنا التصوير بالكاميرا، علما ان مصطفى بدر الدين هو صاحب تسمية «الإعلام الحربي»، وهو من دفع بقوة باتجاه خوض الحرب الموازية في الإعلام ضد اسرائيل.
تشهد الكاميرا التي التقطت المشهد الشهير والأكثر تداولا في تاريخ المقاومة لرفع علم «حزب الله» في موقع الدبشة على رؤية «ذو الفقار». لم تكن تلك العملية مجرد استعراض قوة، بل كانت في صلب الحرب النفسية المؤثرة، إذ ان الموقع كان يخضع آنذاك لحماية عناصر من لواء «جفعاتي»، وكلمة جفعاتي تعني «التلة».
صب «ذو الفقار» جل اهتمامه في اخر التسعينيات على تنويع أعمال المقاومة، بعد ان زج الاحتلال بضباط متمرسين في حرب العصابات والعمل خلف خطوط العدو، فاتسعت عمليات المقاومة من التركيز على الهجمات بالاسناد الناري على المواقع الى الاقتحام والكمائن والأسر (خصوصا لعناصر جيش العميل انطوان لحد) ضمن نطاق جغرافي أوسع.
كانت هذه العمليات جميعها تتم وفق رؤية واضحة بالنسبة لبدر الدين الذي أطلق «عملية العقاب» لجيش لحد وأجبرهم على الانسحاب تحت النيران من منطقة جزين، قبل الانسحاب الاسرائيلي في العام الفين.
في صفحات بدر الدين أيضا العملية النوعية التي أدت الى مقتل قائد القوات الاسرائيلية في جنوب لبنان ايرز غيرشتاين في شهر شباط من العام 1999.
كان غيرشتاين قد استهل عمله بتوجيه ضربة قاسية للمقاومة في الكفور في شهر آب من العام 1997. تباهت قيادة الاحتلال بالضابط المتمرس على حرب العصابات. وضع «ذو الفقار» نصب عينيه اغتيال غيرشتاين، فرسم خطة أمنية ـ عسكرية مركبة ظلت محل حديث الإعلام الاسرائيلي طوال سنوات، لما تضمنته من قدرة كبيرة على التضليل والتنفيذ ثم الانسحاب.
بعد يوم على تلك العملية التي نفذتها المقاومة في الثامن والعشرين من شهر شباط في العام 99، يروي عاموس هرئيل أن ايهود باراك اتخذ القرار بالانسحاب من لبنان.
ولئن كان عماد مغنية الذي صار معروفا باسم «المعاون الجهادي للأمين العام» هو القائد الذي عمل على «مأسسة» المقاومة وتشكيلاتها منذ العام الفين، فإن مصطفى بدر الدين، ومن موقعه في المجلس الجهادي، هو صاحب نظرية تخصص المقاومة واتقانها المهمات الخاصة، الى حين عودته الى الضوء مجددا بقيادته عمليات «حزب الله» في سوريا.
تظل صفحات كثيرة من ذاكرة مصطفى بدر الدين طي الكتمان، حاله كحال رفيق دربه «الحاج رضوان» والعشرات من الكوادر السابقين كما اللاحقين بهما. غير أن اللافت للانتباه في شخصية بدر الدين أنه وبرغم كل فائض القوة والقدرات الفردية والتنظيمية، احتفظ باحترامه لعدوه، فكان لا يتوانى في ترداد عبارة chapeau bas في معرض وصفه لاجراء اسرائيلي متقن في لحظة ما، من دون ان يمس هذا الاحترام من عزيمته في تقليص ميزان الردع مع اسرائيل.
المصدر: صحيفة السفير