قراءة في استراتيجية إيزنكوت: عودة إلى الهجوم البري
الياس فرحات - صحيفة "السفير"
منذ تسلمه منصبه في 16 شباط، 2015 يسعى رئيس اركان الجيش الاسرائيلي غادي ايزنكوت الى رسم صورة لشخصه امام الجمهور الإسرائيلي. وقد ظهر كقائد استثنائي يريد اجراء تغييرات تاريخية في تنظيم الجيش وفي ادائه وفي عقيدته القتالية، تتناسب مع التهديدات الامنية في منطقة الشرق الاوسط والعالم. بعد حرب تموز 2006 وتقرير لجنة «فينوغراد»، حصلت تغييرات تنظيمية ابرزها انشاء قيادة الجبهة الداخلية التي كانت محور الاهتمام من خلال المناورات الداخلية التي اصطلح على تسميتها «نقطة تحول». يحاول ايزنكوت ان يتخطى التقليد الاسرائيلي المتبع، فأعد لذلك استراتيجية جديدة لمواجهة الاخطار المحدقة باسرائيل على ضوء التهديدات الجديدة، ونشرها في وسائل الاعلام. وهي اول مرة يطلع الرأي العام الاسرائيلي على استراتيجية القوات المسلحة الاسرائيلية وربما يناقشها في الدوائر السياسية والحزبية. لم يعرف بعد ما هو موقف الحكومة وخصوصا رئيسها نتنياهو من هذه الاستراتيجية. فهل وافق عليها قبل نشرها ام اطلع عليها بعد اعدادها؟ وما هو موقف وزير الدفاع الذي ازاحته هذه الاستراتيجية جانباً؟
ورد في الاستراتيجية ان رئيس الاركان هو اعلى قائد عسكري وهو يقود القوات المسلحة وهو المسؤول عن ادارة العمليات الحربية. وبهذا يغمز من قناة رئيس الحكومة ووزير الدفاع اللذين شاركا رئيس الاركان في قيادة العمليات في حرب تموز 2006 وحروب غزة الثلاث اللاحقة في الأعوام 2008 -2009 و2012 و2014 ورسالة واضحة ان ليس لهما ان يتدخلا في القرارات العسكرية التي سوف يتخذها رئيس الاركان في الحرب المقبلة.
ورد في الاستراتيجية ايضا ان الدول التي لديها حدود مع اسرائيل لم تعد تشكل خطراً، وأن الخطر يأتي من «حزب الله» و «حماس». ودعت الاستراتيجية الى قيام «حملة بين الحروب» CBW “Campaign Between Wars” اي القيام بكل اعمال المراقبة والمتابعة لنشاطات «العدو» «حزب الله» و «حماس»، ومراقبة الدول القريبة اي ايران. هذه الحملة ليست جديدة بل هي مستمرة منذ انشاء إسرائيل، فقد طارد الموساد قادة المقاومة الفلسطينية في جميع انحاء العالم وقادة «حزب الله» في لبنان وسوريا، بالاضافة الى اعتراض سفن اسلحة للمقاومة ومراقبة بالتجسس البشري والتقني (تنصت، واقمار اصطناعية).
تعتبر الاستراتيجية ان القوات الجوية غير حاسمة للحروب، بالاستناد الى تجربة حرب تموز 2006 وحرب التحالف الدولي ضد «داعش» الذي تقوده الولايات المتحدة منذ أيلول 2014، والذي لم يحقق نتائج حاسمة بل، على العكس، لم تمنع الضربات الجوية «داعش» من التقدم الى الرمادي في العراق والى تدمر والقريتين في سوريا. في جانب اخر، تذكر الاستراتيجية انها حددت عشرات الاف الاهداف في لبنان والاف الاهداف في غزة، وهذا يتطلب عشرات الاف الطلعات الجوية اي الاستخدام المكثف للطيران، ما يعني ان استخدام القوات البرية حتمي وواجب عند اي حرب من دون التقليل من دور القوات الجوية. بمعنى اخر، ان اقتصار العمليات على القوات الجوية انتهى مع حرب تموز، وأن ايزنكوت ينذر بالتحرك البري فور حصول اي مواجهة مقبلة مع «حماس» و «حزب الله». تقول الاستراتيجية إن اسرائيل لن تبدأ بالهجوم، لكنها اذا هوجمت فانها لن تكتفي بالدفاع، بل سوف تبادر الى الهجوم فوراً بدلا من العمليات الدفاعية. يبدو ان هذه الفكرة هي العنصر الحاسم الجديد في هذه الاستراتيجية. للتمكن من شن هجوم فوري ردا على اي هجوم، يجب ان تبقى القوات البرية الاسرائيلية في اعلى درجات الجهوزية. ينطبق هذا الكلام على «حماس» في غزة التي تنذر الاستراتيجية الجديدة باقتحامها فور التعرض لأي هجوم باتجاه المستوطنات والمواقع الاسرائيلية المجاورة. اما على جبهة لبنان، فإن الامر معقد، حيث تنتشر قوات دولية على الجانب اللبناني من الحدود، وهي تحد من حرية حركة القوات البرية الاسرائيلية عندما تبدأ بتطبيق استراتيجية الهجوم الفوري. هناك سابقة العام 1982، حيث اجتاحت خمس فرق اسرائيلية لبنان برغم انتشار القوة الدولية جنوب الليطاني. تشير الاستراتيجية ايضا ان الجيش سوف يشرف على اخلاء المدنيين من مناطق النزاع في الجنوب والشمال، وان النزوح غير المنظم والمربك الذي حصل في حرب لبنان وحروب غزة لن يتكرر. لا تتحدث الاستراتيجية عن توسع رقعة النزاع ومشاركة ايران بالحرب، وهي تذكر جبهة الجولان من دون حساب للجيش السوري المنهمك بالحروب الداخلية، ولا تذكر ما اذا كان هناك احتمال لمشاركة هذا الجيش في مجال الدفاع الجوي او البحري.
من الواضح ان ايزنكوت لا يريد ان يكون بني غانتس اوغابي اشكينازي اخر، اي رئيس اركان تقليدي، بل يريد ان يقدم شيئا جديدا للاسرائيليين يطمئنهم بان الجيش قد أعد سبل مواجهة كل الاحتمالات المقبلة، وانه يضمن الدفاع عن سلامة دولة اسرائيل ومواطنيها. قبل اعلان الاستراتيجية، كان ايزنكوت قد اجرى ثلاث مناورات خلال اربعة اشهر، وهذا رقم قياسي يعكس هاجسا من اخطار محتملة واسلوب مواجهة جديدا. شملت هذه المناورات تمارين على الحرب السيبيرية الالكترونية والمعلوماتية بالاضافة الى تمارين حماية وإخلاء على الجبهة الداخلية واستدعاء حقيقي لاعداد من الاحتياط واستدعاء هاتفي لاعداد كبيرة.
جاءت هذه الاستراتيجية نتيجة الدروس والعبر التي استخلصتها القيادة الاسرائيلية من الحروب مع لبنان وغزة، ومن الحرب القائمة حاليا في سوريا والعراق وطرق الهجوم الجديدة والخاطفة التي تعتمدها المنظمات الارهابية المسلحة وخصوصا «داعش» و «القاعدة» بكل مشتقاتها. وبشكل عام، تؤشر الى انتهاء مرحلة اليقين الاسرائيلي بأن الجيش قادر على حسم اي تهديد للدولة العبرية، وأن مرحلة الحروب التي كانت تجري في الاراضي العربية فقط قد انتهت، وأن مساحة دولة اسرائيل بكاملها باتت تحت النار.
برغم التفوق النوعي الاسرائيلي على الجيوش العربية واختلال التوازن جواً وبحراً وبراً والكترونياً لمصلحة اسرائيل، استمر تهديد الحرب غير المتماثلة الذي يشكله «حزب الله» و «حماس» و «الجهاد الإسلامي» وباقي الفصائل في غزة، ومعه هاجس خبرات الحرب السورية والعراقية الجارية حاليا الذي يؤرق المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، ويدفعها نحو اعتماد اســتراتيجات جديدة تبقـى دائما غير مضمونة النتائج.