لا شيء يشبه الاشتياق، لكن الشوق في حضرة الشهادة يصبح جميلاً. لم يترك أخي -الشهيد- في رحيله وجع الفقد، بل تعويضاً لأرواحنا عما ينقصها من طمأنينة.
أكتب اليوم عن أخي، وهنا يتجلى الحب والشوق وما كان من حياة. هنا في حضرة محمد، لا أكف عن الضجيج والكلام، أقترب منه لأحدثه سراً عن بعض كلام لا يعرفه سوانا. يبتسم ويغمزني وينتصر على الصمت بسكونه وهدوئه.
أكتب اليوم عن محمد، الذي تغير كل شيء في غيابه، حتى ضوء الصباح الذي كان يتشكل على هيئة وجهه الهادئ بات مختلفاً بعد شهادته. أجده معلقاً في السماء، يصلنا قليل من وهجه لكنه يلازمه حيث هو، لأنه الضوء وشكل الفرح.
لا أذكر الكثير من التفاصيل بيننا، رغم أنها لا تنتهي. ربما يطغى العشق على كل اللحظات التي عشناها معاً، وتصبح كل الذكريات لحظة شوق ونظرة طويلة إلى كرم الله الذي لا ينتهي. مع محمد، يصبح الصبر بداية لقاء جديد، ويصبح الليل فرصة لاستحضار كل الذكريات.
كانت الساعة تقارب الثامنة صباحاً. التقينا عند آخر الطريق قبل أن يفصلنا الشارع الطويل. كنت أحسب خطواتي حتى أحظى بعناق أخير وقبلة ووصية. نزل مسرعاً من سيارته، كان أجمل عناق ووصية. كل الحب تجلى في محمد تلك اللحظة، ووددت لو يغرق في قلبي ويختفي عن أعين العالم.
لم تكن المرة الأولى التي يغادرنا محمد للجهاد. ولا المرة الأولى التي يترك فيها أجمل ما لديه، من عائلة وطفلة وحب وصداقات، رحل باحثاً عن سعادته الأبدية. أشتاق إلى محمد بقدر اشتياق محمد إلى نيل تلك الحياة.
لكن هذا الشوق مختلف، يجعلك ترغب في ملازمته. هنا يتجلى الشوق على شكل آية قرانية، يحدثك الله فيها عن الشهداء الأحياء، الفرحين بما أتاهم الله، فتبتسم وتطمئن على محمد. هنا يظهر الشوق على صورة أخي، جميل وهادئ، فتأنس به وتألفه.
هنا الشوق يرافقه الافتخار والعزة، ويتدلى من بدايته شرف وكرامة. هنا دماء الشهداء التي أحيت أمة، ودافعت عن الدين والوطن. هنا أنت، إما أن تقاوم أو تُذلّ. هنا محمد اختار أن يقاوم.
يكبرني محمد ببضع سنوات. تعلمت منها أن الأخ الكبير هو السند والمُدلِل والصديق والحريص على سعادتي حتى آخر يوم في حياته. حتى صنع في شهادته معنى جديداً لعلاقتنا، الأخ الذي أودع الله في سرّه وعد الجنّة، وألَق الأحياء. ترك خلفه أختاً تفخر بما تتشاركه معه من خبز وماء ورحم دافئ.
سنوات العمر التي تفصلني عن محمد علمتني كيف أجد أخي عند كل ضيق أو مشكلة، كيف أسأل أخي عن كل تفصيل أو قضية، كيف أخبره عن تفاصيل حياتي المملة وهو ينصت إليّ بحب، وكيف نمسك ضحكاتنا بين أصابعنا في ساعات الليل المتأخرة حتى لا نزعج النائمين.
أجمل ما في شهادة محمد أن الله نظر إلى عائلتي نظرة كريمة ومنّ علينا بهذا الوسام العظيم، أن صرنا جزءاً من عوائل الشهداء. أجمل ما في هذه الشهادة أن الله حين قرر اختبارنا، اختار لنا ما فيه من الأجر الكثير، وهيّأ لنا فرصة الاقتراب منه أكثر، وأغرقنا بلطفه وكرمه فقال: “أنا خليفة الشهيد في أهله”.
من يعرف محمد جيداً، يُدرك أن مثله لا يموت إلا شهيداً. لأن أمثال محمد لا يأبهون لتفاصيل هذه الدنيا العابرة، ويعملون سعياً لنيل السعادة الأبدية في الحياة الحقيقية. هناك يقف محمدٌ الان، أشعر به يراقبني وأنا أكتب عنه، يبتسم ويحرك شفتيه بطريقة خاصة -يعرفها كل من عايش محمد- أشعر بحركة أصابعه تساعدني على أن أكتب، لأن الكتابة عن محمد من أصعب المهمات. لم تخترع اللغة بعد كلاماً يشبهه. أخي شهيد، والشهادة تحتاج إلى كلام من عوالم الآخرة، حيث ينتمي إليها الآن.
يا محمد، بقدر الشوق الذي يلازم أرواحنا، نشعر بعظمة شهادتك في حياتنا. وبقدر الغياب الذي ترسمه ابتساماتك، ومشاهدك المصورة التي نشعر بها بحجم الفخر الذي تركته لنا والمسؤولية التي بتنا نحملها في غيابك. يا محمد! الشوق في حضرتك جميل ومؤنس، إسمح لنا أن نشتاقك كل لحظة، وأن نحمد الله في كل لحظة على نعمة الشهادة.
يا محمد، هذا سرّي الأخير أود أن أخبر الدنيا عنه، وأعلم أنك تفهم غايته، الآن وبعد غيابك بتّ أفهم قول الله في ناشئة الليل، وسبحات وجهه في كتابه، «...إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ...» يا محمد، أرى الله في اشتياقك.
زهراء جوني - موقع العهد