"وإنني أدعو المسلمين في جميع أنحاء العالم لتكريس يوم الجمعة الأخيرة من هذا الشهر الفضيل من شهر رمضان المبارك ليكون يوم القدس، وإعلان التضامن الدولي من المسلمين في دعم الحقوق المشروعة للشعب المسلم في فلسطين".
الإمام الخميني (آب – 1979)
يتعامل كثيرون مع يوم القدس العالمي على أساس أنه مناسبةٌ لطائفةٍ دون أخرى. ليس في الأمر لبسٌ أنَّ ضياع البوصلة هو جزءٌ من سمات العصر. إن الاختلاف على قضيةٍ واضحةٍ إلى هذا الحد يؤكد لنا أن المشكلة أعمق بكثير من مجرد خلافٍ سطحي، أو اختلافٍ بين "طوائف"، أو صراعاتٍ بين "قياداتٍ" على "مكاسب" سياسية/دينية هنا أو هناك. يرسم الإعلام العربي الممول خليجياً، كما الإعلام الغربي الممول أميركياً صورة متقنةً عن الإمام الخميني، كما عن كل ما صدّرته الثورة الإسلامية في إيران، وتالياً بالتأكيد: "يوم القدس".
انبذوا كل شيءٍ منه
عملت كل وسائل الإعلام الغربية على "شيطنة" كل ما يرتبط بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبطبيعة الأحوال ونظراً لقيمة الإمام: أيضاً كل ما يلامس الإمام الخميني، كل ما يقترب من فكره، من فكر أسلافه (طالما أنه يتبناه)، حتى إن حديث أي "مثقفٍ" عابر عن "مجرد" قبولٍ بفكرة وافق عليها الإمام الراحل يعني أن يجلس هذا المثقف في منزله دون أي عملٍ من أي نوع (وهو أمرٌ مستمرٌ لهذه اللحظة في أيٍ من فضائيات العرب الممولة خليجياً كما الفضائيات الغربية).
يعرف الغرب تماماً ما لأثر أفكار الإمام في البيئة الإيرانية الحاضنة، كما في أية بيئة "إسلاميةٍ" من أي نوع. قد يسأل كثيرون ههنا لماذا تمت محاربة الإمام الخميني أكثر من غيره، هل لأنه "رجلُ دينٍ" فحسب؟ أم لأنه "شيعي"؟ لماذا تعرض الإمام الخميني وأفكاره "للشيطنة" غربياً وعربياً بالمقدار نفسه، مع العلم أنّ كثيرين قبله كانوا يحملون الفكر الشيعي ولم يتعرضوا لربع ما تعرَّض له الإمام من "تشويه" على مر الوقت. فعلياً هو سؤالٌ أكثر من شائك، تعرض الإمام -بكل بساطة- لكل هذا لأنه نادى بأمر خالف فيه جميع "فراعنة" هذا العصر: لقد حمل صوت المستضعفين، رفعه عالياً، وصدح به. هذا أمرٌ لا يمكن "للظالمين" أن يسكتوا عنه، وتعبير "الظالمين" ههنا، ليس دينياً، بل هو اقتصادي بحت: فأن تأتي لتحتل أرض شعب، وتمتص رزقه، لا يعني أنك "ديمقراطي" أو حر، حتى ولو حكت كل وسائل الإعلام أنك هكذا، هذا يعني أنك "ظالمٌ" و"محتل".
عليه، فإنه من الجلي الواضح، أنَّ مشكلة الغرب مع الإمام الخميني ليست أنَّه من طائفةٍ أو دين معينٍ فحسب، بل لأنه أراد أن يحرر فقراء بلاده وبلاد المسلمين ومستضعفيهم من نير أولئك "الظالمين". هكذا هي القضية في أدق صورها. كتبت آلاف المقالات، صنعت آلاف الأفلام الوثائقية، آلاف الأفلام الدرامية والقصص(يمكن مراجعة فيلم Argo 2012 مثلاً)، حتى قصص "الكوميكس" استخدمت فيها صور الإمام لتشويهه(استخدمت شركة دي سي للكوميكس فعلياً صورة الإمام في إحدى قصصها في العام 1983)، وكل ذلك لأنه رفع الصوت عالياً وقال للاستكبار: لا.
لم تكن فكرة "اللا" متوقعةً من أحد من هذا الشرق في تلك اللحظة المصيرية من تاريخ المنطقة. ففي العام 1979، كان الوضع في أسوأ حالاته: لم يكن قد مضى على اتفاقية كامب ديفيد (التي وقعها آنذاك الرئيس المصري أنور السادات مع العدو الصهيوني) بضعة أشهرٍ (حدثت الإتفاقية في أواخر العام 1978)، كان الجميع منقسماً: إما يريد السلام الاستسلامي، وإما هو خائفٌ يريد المحافظة على "كرسيه" وحكمه فينأى بنفسه عن القضية الفلسطينية بقدها وقديدها؛ حتى إن أحد الكتاب الغربيين المشهورين عنون مقاله وقتها بـ"اللاهثون خلف راحيل" في إشارة لركض الحكام العرب خلف الكيان العبري يستجدون السلام منه (راحيل هو اسم عبري شهير). كان الوضع سوداوياً إلى هذا الحد. يومها وفي خضم ذلك الطقس السياسي العاصب، هب الإمام ليقول للعالم: كلا، نحن لا زلنا هنا، سنقاومكم حتى ولو بأشفار العيون، وستنتصر العين على المخرز. كان الكلام خلبياً بالنسبة لكثيرين، كانوا يعتقدون بأن الإمام سيتراجع إذا ما ضغطوا عليه: اقتصادياً، سياسياً، عسكريا. كل ذلك حصل بالترتيب، لكنه لم يهن ولم يتراجع، لماذا؟ لأنه ببساطة كان يعرف بأنه في النهاية هو "موكلٌ" من قبل "عزيزٍ مقتدر" فوق كل هؤلاء، سينصره ولو كره الجميع. أكثر ما كان يوجع القلب في تلك اللحظات أنَّ من كان يفترض أن يكونوا معه لم يفعلوا، أما من توقع "نصرتهم" فكانوا أول من لبى النداء: كان مستضعفو الأرض حملة اللواء، وبعد سنين طوال لا زالوا على السجية نفسها!
لماذا يوم القدس؟
أطلق الإمام يوم القدس العالمي بعد انتصار الثورة، كان يعرف تماماً أن المستضعفين سيكون لهم الشأن الأكبر يوماً ما، ولا بد أنهم "سيرثون الأرض" كما وعد القدير. لذلك كان اختياره لآخر جمعةٍ من شهر رمضان المبارك كي يكون يوم "الصرخة الكبرى" بوجه الاستكبار: هذه المدينة لنا، إنا منها وإنا إليها لعائدون.
رأى الإمام بكل بساطة أن "القدس" تستحق أن تكون "الجامع" والرابط والنقطة الوصل بين جميع المسلمين في أنحاء العالم، وأنّهم إذا ما أعلنوا في يومٍ محدد تضامنهم "معاً" من أجل "قضيةٍ" واحدةٍ عادلة، يتفقون عليها جميعهم، فهذا هو "ذروة" التجمّع والوحدة. ففكرة يوم القدس، هي أقرب إلى اشعارٍ بالوحدة والتوحد قبل أي "رسالةٍ" أخرى. ثانياً هي دعوة على أمرٍ يتفق عليه جميع المسلمين، بجميع مشاربهم واتجاهاتهم، فالقدس ذات قيمةٍ روحية عالية: هي أولى القبلتين، مسرى الوحي، وحكماً أرضٌ محتلة من قبل أعداء الإسلام الأوائل: الصهاينة! باختصار، إذاً هي دعوة "إقواء" (empowerment): "إذا كنا معاً فإننا سنحقق ما لم يستطعه واحدنا وحده". ثالثاً: هي رسالةٌ لتنفيذ شرع الله وحكمه، يأتي فحواها واضحاً بيناً: "فلنتحد معاً ضد عدوٍ نكرهه ونبغضه جميعاً، وهو عدو الله قبل أن يكون عدونا نحن".
بعد أكثر من 36 عاماً على ذلك الإعلان/الصرخة، لايمكن لأي قارئ سياسي/اعلامي/ ثقافي إلا أن يدرك حجم التغيير الذي أحرزه ذلك الفكر. فما بدأ صغيراً مقتصراً على عددٍ محدودٍ من الأفراد يصل اليوم إلى ملايين في جميع أنحاء العالم، المدينة التي لازالت محتلة تبدو أقرب يوماً بعد يوم، فالإمام كان بعيد النظر، شديد الملاحظة ، كان يعرف بأنه ذات يومٍ –ليس ببعيد- سيعود أصحاب هذي الأرض إليها، وسترتفع فيها ذات الرايات التي رفعت ذات يومٍ بارق في العاصمة طهران، ذات الرايات التي رفعها جده (ص) يوم تحرير مكة. في ذلك اليوم الموعود سيكون الإمام أول المهنئين على ذلك النصر المبين، ذلك أنّه كان يعرف ما لا يعرفه كثيرون، كان موقناً بالنصر، أو لم يكن شعاره دائماً: أليس الصبح بقريب؟