عندما يعلن الأمين العام لحزب الله سماحة السيّد حسن نصر الله أمراً ما، فإن العدو ينصت إليه بانتباه قبل الخصم أو الصديق. ذلك أن العدو الصهيوني خبر جيّداً وعود قائد المقاومة وصدق تحقيقها على أيدي المجاهدين. مسؤولو الكيان لا شك استمعوا جيّداً لقول الأمين العام الأخير في عيد التحرير "لم يمر زمان على هذه المقاومة كانت فيه أفضل خبرة ونفيراً وقوة وحضوراً مما هي عليه اليوم".. عبارات لا بُدّ أخذتها قيادة العدو العسكرية فضلاً عن الخبراء العسكريين على محمل الجد، والتهديد.
العميد المتقاعد محمد عباس أحد هؤلاء. يشير إلى أن المقاومة أصبحت قادرة على التكيّف مع الحرب على جبهتين، جبهة العدو الصهيوني من جهة، وجبهة العدو الارهابي التكفيري من جهة ثانية، وهي راكمت من خلال الحرب في سوريا خبرات تحدّث عنها العدو الاسرائيلي وأعلن قلقه منها.
يدرك المراقبون جيّداً أن المقاومة وصلت من حيث الدور والتجهيز الى مرحلة متقدّمة غير مسبوقة. منذ انطلاقاتها في العام 1982، لم يكن في ذهن المقاومة غير الهزيمة أو التراجع، بل عمل قادتها من السيد عباس الموسوي الى الشيخ راغب حرب والحاج عماد مغنية على جعلها كما دماء الشهداء، تنمو وتكبر باستمرار. وفي هذا السياق، يشرح الخبير العسكري العميد المتقاعد أمين حطيط مراحل تطوّر العمل العسكري والبنيوي للمقاومة منذ انطلاقتها، ويقسّمها الى 5 مراحل.
المرحلة الأولى التي انطلقت مع بدايات المقاومة، كانت بحسب العميد حطيط لا تزال "بدائية". حينها كان الاستناد الى السلاح الخفيف والمقاتل المبتدئ، فضلاً عن قدرات تنظيمية محدودة جداً. لكن نقاط القوة في تلك المرحلة كانت ارادة القتال والتضحية. وفيما كان عدد الشهداء مرتفعاً، كان الانجاز الميداني منخفضاً. وهذه المعادلة فرضت على المقاومة اللجوء الى ما يسمّى عسكرياً بـ"القنابل البشرية" أي العمليات الاستشهادية.
وفي المرحلة الثانية، يشير حطيط الى اكتساب حزب الله الخبرة، وتطويره للسلاح ضمن امكاناته. وعلى صعيد المقاتل، تغيّرت عملية التجنيد من تجنيد فطري مع بعض التعلميات الابتدائية حول استخدام بعض الأسلحة، الى المقاتل المدرّب على نوع من السلاح والعمليات العسكرية. وكان المقاتل حريصاً على المعلومات التي تفيد في نجاح المهمة. أمّا على مستوى السلاح، فبقي الاعتماد على السلاح الخفيف الذي يشمل في حينها البندقية والـ"آر بي.جي"، والعبوة الناسفة المحدودة الحجم.
ويضيف حطيط، تميّزت هذه المرحلة بأمرين، الأوّل هو استقطاب المجاهد للالتحاق بحلقات التدريب، والآخر هو بدء تلقي المقاومة للأسلحة (من سوريا وايران) ضمن قدرتها على الاستيعاب.
القفزة النوعية على الصعيد العسكري لحزب الله تشكّلت في المرحلة الثالثة. وشهدت بداية ظهور تنظيم الخلايا العسكرية المتخصصة وما يسمى في العلوم العسكرية "انشاء السلاح". اي الانتقال الى استعمال القدرات النارية الصاروخية بشكل دقيق وعلمي، حيث لم يسمح حزب الله بالاستخدام العشوائي للصاروخ. وحدَّد نظام رمي صارم لجهة الزمان والمكان والكثافة والنمط.
ويلفت العميد حطيط الى أن هذه المرحلة شهدت الانتقال من حلقات التدريب المحدودة الى معسكرات التدريب المتعمّقة. ويقول "هنا انتقل حزب الله من قتال الجيل الرابع (حرب العصابات بالخلايا الصغيرة) الى قتال حزب الله الذي يعتمد على النار والحركة وحسن استعمال الأرض. وأحدثت هذه المرحلة ألماً شديداً لـ"اسرائيل" لدرجة أنّها أطلقت "عناقيد الغضب" بوجه لبنان". كما تميزت هذه المرحلة أيضاً بارتفاع مستوى الانجاز الميداني وانخفاض مستوى الشهداء.
أمّا المرحلة الرابعة، فكانت تطويراً للمرحلة الثالثة على اتجاهين. العنوان الناري، أي توسيع رقعة النيران المؤثرة. حيث انتقل حزب الله من مستوى نار من 25 الى 30 كلم الى مستوى نار من 100 الى 130 كلم.
وفي هذا المرحلة، تطوّر حزب الله في المسائل التقنية الحديثة (الرصد وسلاح الاشارة)، وكان بارعاً في استخدام التكنولوجيا المعلوماتية، وقد تخطى في ذلك جيوشاً كثيرة في المنطقة.
ويشير العميد حطيط، الى أنه على مستوى التدريب، تم بناء "المقاتل المتخصص"، والمقاتل المتعدد الاختصاصات، فضلاً عن بناء الأركان والقيادات.
وتتميّز هذه المرحلة بالبدء باكتساب الوحدات القتالية لحزب الله لخبرات قتالية مزدوجة للهجوم المحدود، والهجوم المتخصص المنسق. واستخدمت هذه القدرات في عدوان تموز 2006، حيث ابتدع حزب الله في هذه المرحلة فكرة المراوغة العسكرية المستمرة، وهذه الاستراتيجية أربكت العدو. وفي المرحلتين الرابعة والخامسة، تخلت المقاومة بفضل قدراتها المتطوّرة عن "العمليات الاستشهادية".
واليوم، يعيش حزب الله مرحلة الجسم الرشيق. فالمرحلة الخامسة التي بدأت بعد العام 2006 ولما تزل حتى اليوم، شمل حزب الله خلالها كل ما يمكن أن يقرأ في التاريخ العسكري للمقاومات، وهو لم يعد في التعريف العسكري يشبه أحداً، واقترب أكثر الى صورة الجيش، دون أن يتخلى عن الخصائص الايجابية للمقاومة، مع تجنب الوقوع في سلبيات ما يسمى الحركة الثقيلة للجيوش.
وفيما يشير حطيط الى أن نسبة المقاتلين الفعليين في الجيوش من بين العدد الاجمالي للجيش تتراوح عادة من 35 الى 50 %، والأعداد الباقية تكون في خدمة المقاتلين. أما في المقاومة، تتراوح نسبة الحجم القتالي بين 70 الى 80 %، وهذا أمر مهم جداً، بحسب العميد حطيط.
المقاومة اليوم وسّعت قدراتها النارية بشكل غير مسبوق على صعيد البر، حتى أصبحت تصل الى عمق 130 الى 150 كلم، وأصبحت تغطي كامل فلسطين المحتلة بنيرانها. يؤكّد حطيط. ويضيف "دخل حزب الله عالم المراقبة الجوية، وامتلك منظومة دفاع جوي تدفع الأخطار القريبة، ومنطومة دفاع بحري استخدمها عام 2006 وطوّرها فيما بعد، وسلاح الكورنيت الذي هو أكبر منظومة دفاع ضد الدروع".
أما الأخطر بنظر حطيط، فهو الانتقال الى مرحلة احتلال المناطق وتطهيرها (في سوريا) والسيطرة عليها.
اذاً، فإن ما اعتبرة بعض أعداء المقاومة مرحلة استنزاف على الجبهة السورية، يراه حطيط فرصة ساهمت في تطوير العمل العسكري المقاوم. وهذا ما تؤكده الوقائع.
يقول العميد عبّاس إن "قتال المقاومين على الأرض السورية أكسبهم القدرة على خوض حرب هجومية، ومكّنهم من الحروب الشبيهة بالنمط الكلاسيكي المتداخل مع حرب العصابات"، مشدداً في الوقت عينه على أن "العدو في سوريا هو عدو شرس ويمتلك ايديولوجيا، ورغم ذلك، حققت المقاومة انجازات غير مسبوقة في الميدان"، وهو ما تقرأة "اسرائيل" جيّداً.
ثقة المقاومة بقدراتها وقوّتها باتت تنعكس خوفاً وقلقاً على الجانب الاسرائيلي. حتّى أصبح مجرّد ظهور مراسل "المنار" على مقربة من ملالة معادية مصفّحة، يثير رعب الجنود ويدفعهم الى الاختباء في دباباتهم والتراجع أمتاراً الى الوراء. وهنا، يقول مراسل القناة الثانية للشؤون العربية، ايهود يعري، بعد عرض "المنار" شريطاً مصوراً يظهر الزميل علي شعيب على الحدود مع فلسطين المحتلة، وتقهقر جنود العدو المختبئين داخل آلياتهم المصفحة خوفاً من الكاميرا، إن "حزب الله يريد ان يقول للجيش الاسرائيلي انه قادر على فعل ما يريد ولديه اهداف سهلة، لكنه في هذه المرحلة لا يريد ان يشن عمليات". ويضيف "ان حزب الله اراد ان يُفهم الاسرائيليين ان انشغاله في الساحة السورية لا يعني انه توقف عن متابعة الجنود الاسرائيليين في الشمال". يستشهد المراسل بكلام الأمين العام لحزب الله عندما "أكد في خطابه الأخير على المتابعة اللصيقة لجنود الجيش الاسرائيلي على الحدود".
وقد أثارت العملية النوعيّة للمقاومة الاسلامية في جرود عرسال ضد لواء الغرباء في جبهة "النصرة" الارهابية - فرع تنظيم "القاعدة" في سوريا قلق العدو الصهيوني. فإضافة الى الخوف الاسرائيلي المعلن منذ فترة غير وجيزة من امتلاك حزب الله قدرات تمكّنه من احتلال الجليل، خصوصاً بعد تهديد السيد نصر الله الواضح في هذا المجال، ظهر تهديد جديد على ميدان المواجهة مع "اسرائيل". يتمثّل بسلاح الطائرة بدون طيّار المسيّرة من قبل المقاومة.
الخبير العسكري محمّد عبّاس يعتبر أن اطلاق المقاومة للطائرة المسيّرة إنّما يدّل على قدرتها في الابداع "لدى المقاومة دائماً ما تفاجئ به العدو". ويرى أن المقاومة التي تمتلك طائرات استطلاع مسيّرة مجهّزة بالكاميرات، هي حتماً قادرة على تحميل هذه الطائرات بالصواريخ والقذائف "وبالتالي هي لديها التصميم والقدرة على امتلاك التكنولوجيا اللازمة" لمواجهة العدو.
وفيما تؤكد القناة الاسرائيلية العاشرة في تقرير لها أن "استخدام حزب الله لهذا السلاح المتطور من شأنه أن يثير الخشية"، تشير الى أن "وجود سلاح كهذا أي طائرة مسيرة هجومية، يعني أنها لا تتلقّى الصور وتبثّها فقط بصورة استخبارية، بل تستخدم أيضا لأهداف هجومية".
خلاصة القول، إن حزب الله بات اليوم يشكل منظومة فريدة في القتال، وهو أكثر قوّة وفعالية من كل المراحل التاريخية التي مرَّ بها.
ميساء مقدم - موقع العهد