لدي خيارات متنوعة للبدء بهذا المقال. يمكن أن أبدأه بأيام كنا أطفالاً، منعنا أهلنا من الإشارة إلى أعلى إحدى تلات قريتنا، حيث احتل الصهاينة قمتها وجعلوه موقعاً لهم سيجوا ما يليه نحو بلدتنا ليكون حامياً لمستعمرة مسكاف عام من تسلل المقاومين الفلسطينيين إلى داخل الأرض المحتلة. "لا تومئ بإصبعك نحو الموقع. قد يطلق عليك "اليهود" النار". هكذا كان الأهل يطلقون عليهم: "اليهود". فهذا الاسم يكفي لتوصيف هؤلاء القوم والإعراب عن كل ما يكنزونه في نفوسهم من خبث وحقد وظلم ونظرة دونية للناس الآخرين.
يومها، كانت لليهودي في رأسي صورة حبة خيار، وفقاً للشكل الذي كنت اشاهده عليه من بعيد، من المسافة الممتدة خطَّ نارٍ من شرفة منزلنا حتى الموقع العسكري المتاخم للحدود اللبنانية – الفلسطينية. وما زلت أذكر مشهد "الكشاف" الشهير، الذي كان يوجّه ضوءه إلى بيوت وشوارع القرية فيضيئها ويحول ليلها إلى نهار، في بحث عن أية حركة تريب هؤلاء اليهود، ذلك الضوء الذي كان يهجم على نافذة غرفتي مرات عديدة كل ليلة.
يمكن أن ابدأ مقالتي أيضاً من مشهد تعلق في ذهني لآلية للجيش اللبناني، حاملة جند، ذات إطارات، وقفت يوماً قرب مبنى مدرستنا الصغير، ولم أكن شاهدت قبلها، ولم أشاهد بعدها أية آلية للجيش اللبناني إلا بعد تحرير الجنوب في العام ألفين.
هذه الصورة الذهنية حفظتها في داخلي جيداً، فقد كانت عزيزة عليّ جداً، على الرغم من تآكل شكلها، واضمحلال ألوانها في الذاكرة، لكنها كانت صورة غالية وغالية جداً.
أيامها كان حلمي أن يكون لدي العلم اللبناني. كنت أرسمه على الورق وأعلق الورقة على قضيب خشبي، وأدور به في البيت وما حول البيت مردداً كلنا للوطن.
ظل حلم الحصول على علم شاغلاً ذهني طيلة سنوات بعد ذلك. وأول مرة أشاهد فيها علماً لبنانياً حقيقياً كان يوم كنت خارجاً وقريب لي من منزل خالي في منطقة الظريف – بيروت. لعلها كانت أيام الاحتفال بعيد الاستقلال. كان الشارع فارغاً من الناس في تلك الساعة من الليل. شاهدت علماً معلقاً بحبلين فرق الشارع. صعدت عمود الكهرباء وشددت الحبل فانقطع، تناولت الراية و"سرقتها" بكل سعادة.
ويمكن أن أبدأ مقالتي أيضاً من منام والدتي وقد شاهدتْ في نومها يوم دخول عناصر سعد حداد إلى قريتنا من جهة الشرق أن جامعاً في مدخل قريتنا، من حيث دخلوا، قد سقطت مئذنته، ومرت السنون، لتشاهد في منام آخر أن جامعاً يبنى عند مدخل قريتنا الغربيّ، وترتفع مئذنته. اليوم، من حيث دخل عناصر سعد حداد توجد نقطة للجيش اللبناني، وعند مدخل القرية الغربي، من حيث دخل مجاهدو المقاومة الإسلامية يوم تحرير القرية في العام ألفين، يوجد مسجد صغير جميل، ينادي عند كل موعد صلاة: حي على خير العمل.
وبعد، هذه مقدمات ثلاث لمقالي. لكن، هل من ضرورة بعد مقدمات ثلاث أن تكون هناك مقالة؟
إلى الذين أعادوني بعد غربة إلى وطني، إلى الذين أعادوا الوطن إلى الوطن، إلى الذين رفعوا من جديد العلم اللبناني عند آخر شبر من حدود الوطن جنوباً، إلى الذين حفظوا وما زالوا يحفظون الوطن من كل سوء، كل عام وأنتم التحرير، كل عام وأنتم المقاومة، كل عام وأنتم الوطن.