"الخلاصة في الأمر؛ أنَّ ما سيأتي سيأتي؛ وأن تقبلك للأمر من عدمه واحدٌ. لكن رغم هذا المحتوم المؤكد فإنَّه لايزال بإمكانك تغيير شيءٍ واحد فحسب: المستقبل؛ هذا هو الأمر الذي بيدك الآن، فاسع إليه".
وليم شكسبير(كاتب إنكليزي) من مسرحية "مأساة عطيل"
حدثت النكبة الفلسطينية في العام 1948، أي قبل 67 عاماً من الآن، كبر من كانوا صغاراً، شاخ معظمهم، حتى إن كثيراً منهم قد رحل، وسواء أكان هذا الرحيل في ساحة المعركة أو على فراش المرض، فإن الأمر الوحيد المؤكد الحدوث كان "النكبة" بكل ما تحتويه من معانٍ قاسيةٍ مخيفة. ولد التعبير –بحسب كثيرين- من بنات أفكار المؤرخ اللبناني-السوري قسطنطين زريق في كتابه "معنى النكبة"(الصادر في آب 1948)؛ لكن منشوراً صهيونياً كان سيرمى فوق قرية الطيرة الفلسطينية بهدف "تهجير" وإخافة" أهلها يستحضر التعبير كواقعٍ معاش؛ لذلك ، لا نقاش في أصل التعبير بمقدار ما هو "صاخب" و"خيلائي" في وصف حالةٍ أقل ما يقال فيها أنها شديدة الغرابة والوحشية والظلم.
النكبة
لايعرف الجيل الجديد كثيراً عن النكبة، كما لا يهتم الإعلام كثيراً إلا بالتعبير في حد ذاته أكثر من ماهيته وما يختبئ خلفه. ما يفوت كثيرين أن النكبة لم تسمى هكذا إلا لأنها فعلياً "نكبة" أي "مصيبةٌ غير معتادة"، وهي لم تكن مجرد "مصيبة" فحسب بل كانت أمراً مستمراً وذو أبعادٍ –إلى حدٍ ما- لا نهائية. يجب أن يعلم الجميع أن النكبة لم تحدث في سنةٍ واحدةٍ فحسب، بل هي حدثت منذ العام 1948 وصولاً حتى لحظتنا الحالية، أي أنها مستمرة، منذ وقت "الخروج والتيه" الفلسطيني من أرضه المقدسة، ولاتزال مستمرةٌ في مفاعيلها حتى يومنا هذا. من هنا، فإنَّ استحضارها ليس أكثر من أمرٌ عبثي، فهي حاضرةٌ في كل تواجدٍ فلسطيني خارج الأراضي المحتلة، في كل مخيم، في كل تجمّع، في كل بيت، في كل روحٍ فلسطينية. لكن فلنترك فكرة مفاعيل النكبة ولنركّز أكثر على الحدث في لحظته الأولى كما بدأ . علينا دائماً أن نستذكر أن الفلسطينين هجّروا من أراضيهم وقراهم "الآمنة" وغير "المجهزة" للقتال بأي شكلٍ من الأشكال عبر أكثر من 70 مجزرة ذهب ضحيتها أكثر من 15000 فلسطيني (بجسب موسوعة النكبة) . تدأب وسائل الإعلام -بنيةٍ غير صافية أبداً- (الغربية والعربية) على القول بأنَّ عدد المجازر التي حدثت في فلسطين "قليل" و"محدود" مستذكرة أربع أو خمس مجازر أساسية (كدير ياسين مثالاً) متجاهلةً عن قصدٍ (أو بغيره) عشرات المذابح والمقاتل الكبيرة التي أودت بحياة الآلاف. إن تأثير المجازر وعامل "الدومينيو" كان سبباً رئيسياً في السقوط السريع لكثيرٍ من القرى الفلسطينية أمام جيش المحتل الصهيوني وعصاباته. لجأت عصابات الهاجاناه والشتيرن والبالماخ إلى القتل "العشوائي" و"المركّز"(رغم تناقض الفكرتين) مع إضافة كثيرٍ من "الإستعراضية" و "الخيلاء" إلى أساليب القتل لديها(استخدمت عصابات القوات اللبنانية نفس الطريقة في مجزرة صبرا وشاتيلا في العام 1982 ضد سكان المخيّم اللبنانيين والفلسطينين)، فبقرت بطون النساء الحوامل، وقطعت أوصال الأطفال والشيوخ، فضلاً عن حالات اغتصابٍ كثيرة لم يكتب المؤرخون عنها -بداهةً- لأن الناس لم تكن لتتحدث عن هذا الأمر البتة. كان عدد المدن والقرى الفلسطينية (قبل النكبة) 1300 مدينة وقرية معروفة ومسكونة، سيطر الإحتلال (الجيش الصهيوني وعصاباته) على أكثر من 774 منها، فيما دمر أكثر من 531 بالكامل (بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني). آنذاك كان السؤال الأساسي والمركزي في الحديث هو "متى سنعود" حتى أن عادة حمل "المفتاح" المعدني الكبير الشهيرة التي كان يمارسها أغلب "كبار" السن في الوسط الفلسطيني وخصوصاً في مخيمات العودة (وحتى يومنا الحالي) كانت جزءاً لا يتجزأ من الثقافة؛ لقد ظل الكبار متأكدين من العودة، وأن الخروج لا يُعدُّ أكثر من "مرحلةٍ" قصيرة ستنتهي قريباً؛ ولاتزال هذه المفاتيح حتى اللحظة تستقر في "صدر" أغلب المنازل الفلسطينية اليوم في المخيمات بانتظار عودة حامليها وفتح تلك الأبواب ولو أنهم يعرفون تماماً أن بيوتهم تلك لم تعد موجودة.
مقاومة
لا يختلف إثنان على أنَّ النكبة الفلسطينية كانت فاتحةً أساسية لجيلٍ من المقاومين الأوائل، ورغم أن التجربة مرت –ولاتزال- بالكثير من العثرات، إلا أن البوصلة لدى كثيرين لاتزال واضحةً معروفة، ولعل أكبر دليل وأبرزه على نجاعة خيار المقاومة واختياره هو العمليات "الفردية" التي تحدث هنا وهناك في أراضي فلسطين التاريخية (القدس وما يسمى أراضي 1948) من وقت لاخر حينما يمسك شابٍ بمدية أو أي آلة حادة ويضرب بها مستوطنين أو جنوداً صهاينة، فضلاً عن حالات "الدهس" التي باتت جزءاً "مخيفاً" من حياة الصهاينة اليومية (كعملية الشهيد إبراهيم العكاري مثالاً)، أو لربما مع قليلٍ من تخطيط وأسلحة "نادرة" (كعملية الأخوين الشهدين عدي وغسان الجمل). إذاً هو باختصاراً نوعٌ من الغضب الخبيئ تحت "الرماد"، ينتظر أن تهب الرياح ولو قليلاً كي يعود للظهور بشكله الأبرز والأوسع، ولا يختلف إثنان على أنَّ الصهاينة حاولوا وبكل الوسائل خلق نوعٍ من التفاهمات مع الأجيال الجديدة من فلسطيني "الداخل" (عبر الجمعيات "الخيرية" والأعمال المدنية واعطائهم بعض الحقوق التي هي لهم أصلاً) لكن ذلك كله سقط مع أول امتحان حقيقي لتجربة التعايش وسقطت معها كل الدراسات والأموال الهائلة التي صرفت لخلق هذا التوازن الهش، فكانت حادثة "إعدام" الطفل محمد أبوخضير "حرقاً" لتعيد "التمظهر" لوعي موجودٍ أصلاً، كالكلام المنسوب إلى والدة الشهيد أبو خضير حينما قالت إبان تأبينه: "الصهيوني هو سبب نكبتنا، مشان هيك شو ما يعمل مش غريب عليه". كان استحضار كلمة "النكبة" في حديث الوالدة ليس مجرد تذكيرٍ وتأريخٍ للحدث في حد ذاته، بل أيضاً نوعٌ من إعادة "التجربة" بكل مفاعيلها إلى الواجهة.
باختصار؛ بعد 67 عاماً من المجزرة الكبرى، من الهجرة الكبيرة؛ من المقتلة المسماة "نكبة" يعرف الفلسطينون جيداً بأن خياراتهم باتت قليلةً محدودة، وسواء أكانوا في الضفة، رام الله، القدس، غزة، الداخل الفلسطيني، أو في بلدان أخرى هم باتوا يفهمون بأن هذه النكبة وإن كانت ليست من "صنعهم" فإن استمرارها هو جزءٌ من "ضياع" بوصلة هذه الأمة، ولأنها أرضهم وقضيتهم قبل أيٍ آخر، يدركون اليوم وأكثر من أي يومٍ سابق بأنه لابديل عن "المقاومة" حتى رحيل آخر صهيوني عن هذه البقاع المقدّسة. هكذا هي الفكرة؛ بكل وضوحها وشمسها، ومن لايراها فهي كالعادة مشكلته وحده فحسب، وليست مشكلة الفلسطينين جميعاً!