يمضِي بلباسِه البسِيطِ، على شفتيهِ ابتسامة تسحرُ أفئدةَ محبّيه، متواضعاً خلوقاً كتوماً، لكنّه صاحبَ عزةٍ وكبرياءٍ في مواطنِ الجهادِ، يهبطُ لباطنِ الأرضِ، يحفرُ جسوراً إلى الجنّة، كأنّه يشتمُّ رائحةَ الجنان يقربُ أكثر مع كل ضربة فأسٍ، كلما تعمّق في تُربِ بلادِه.
يتصبّبُ عرقُه بغزارة يمتزجُ بحباتِ الرملِ الرّماديّة، فله في عمقِ الأرضِ ذكرياتٌ جمّة، أنفاسُه، كلماتُه، وجعُه كدّه، فاسألوا الأرضَ عن شهيدٍ قدّم لها روحَه ودماءَه وأشلاءَه، اسألوا حبّات الرمل كما تناقلها كي يمهّد طريقاً لأبطال موقع الـ 16 الذين أوقعوا العدوَ المجرم في مقتلٍ في "العصف المأكول".
نهاد عوض خليف الذي عاش ثلاثة عقودٍ من الزمانِ، قضى نصفها في ساحاتِ الوغى ومصانعِ الرجالِ، فحفرَ اسمه في كُلِ ميدانٍ فوقَ الأرضِ وتحتَ الأرضَ، وفي معاقلِ التدريبِ، والكمائن المتقدمة.
عاشــقُ الأنفـاقِ
منـذ أن التحق "نهاد" بكتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، قبل أكثر من عشر سنواتٍ، وهو يشاركُ إخوانه حفر الأنفاق القساميّة التي أذاقت العدوَ الإسرائيلي الويلاتِ، عبر الهجمات التي نفذها استشهاديو القسام خلال الفترة الماضية.
على وجهه علاماتُ ألم الفراق، ولوعة البعاد، يقول أحد أصدقائه: "ذرفنا كثير الدّمع على حبيبنا نهاد، لقد كان رحيله مؤثراً، لأنه طيب القلبِ، حنوناً، يساعد كل يلبي نداء إخوانه في كُلِّ مطلبٍ"
كان قلبّه معلقاً بباطنِ الأرض، فكان يقضي أوقاتاً طويلة، يبني جسورَ الأمل المنشودِ، ويحفرُ الأنفاق بعزيمةٍ وإرادة، فكان يتقدم إخوانه، يطلب منهم الرجوع خوفاً عليهم من انهيار النفق، فيؤثر أن يضع نفسه في المقدمة حرصاً على إخوانه.
"نهاد، كان يتألم كثيراً بسببِ وجعٍ شديدٍ في ظهره، نتيجة عمله بالأنفاق، وقد أصيب بـ "الغضروف"، ويطلب من الله الراحة، فكان له ما أراد" يواصلُ صديقُه.
"في آخر جلسة لنا معه قبل أيامٍ قلائل، أحضر معه حبّات الشكولاتة ووزعها على جميعِ الحضور، كأنّها حلوان الشهادة" يختم صديقه لـ "فلسطين الآن".
صبرٌ يهزمُ الألم
"صلّى الفجرَ وانطلقَ حاملاً معه كيساً يحتوي على ملابس العمل، ودّعني، ودّع أبناءه الثلاثة قبّلهم كأي يومٍ يخرج فيه ولا يعلم هل سيعودُ أم لا، ثم انطلقَ إلى النفق" بدموعٍ امتزجت بالعذابِ وقسوة الفراق، تقول زوجته خلود خليف "21عاماً"
في صباحِ الثاني من مايو/آيار2015، وأثناء عمل "نهاد" في الأنفاق، وكان يتقدم إخوانه، انهار نفقٌ عليه أثناء عمله، ونجا إخوانه، وغمرته الرمال، ليخرج بعد ساعةٍ عريساً إلى الجنّة، محمولاً على الأكتافِ بجنازة عسكرية لكتاب القسام عصر ذات اليوم.
"لقد شعر أبنائي .. محمد .. مجد .. سراج، بفراق أبيهم سريعاً، في كل فرصة يسألوني "ماما .. وين بابا" ، لقد كان لهم كل شيء، يلاعبهم .. يحتضنهم .. يصطحبهم معه إلى أماكن عديدة ليرفه عنهم"
توأمٌ يودعُ توأمه
في مستشفى كمال عدوان بمشروع بيت لاهيا شمال قطاع غزة، اجتمع المحبون والأهل والأصدقاء حول جثمان "نهاد" الطاهر، مشاهدٌ مريرة، ودموعٌ غزيرة تذرفُ على حبيبهم المرتحلِ.
لكن لحظة الوداعِ الأصعب كانت لرفيقه في رحم أمه، "عماد" الذي فقدَ نصف روحَه، بعدما كانت روحاً في جسدين!
عاشا معاً، في رحمِ الأمّ، في بيتٍ واحد، في حارةٍ واحدةٍ، في ميدانٍ واحدٍ، لكنّ "الموت" فرّق بينهم.
حينما يُحتضن حذاءُ الشهيد
صوتُ نحيبٍ على درجٍ مظلمٍ كئيبٍ الساعةَ الرابعة فجراً، لقدْ كان الأبُ الحنونُ يُقبّل حذاءَ ابنه العسكري، الذي لطالمَا مضي فيه مجاهداً في سبيل الله.
يقولُ والدُه وتجاعيدُ وجهه أرهقها البكاءِ: " نعم الابن نهاد، ونعم المقاتل نهاد، لقـد كان يحبنا كثيراً، يحب أبناءه، وعمل على إسعادهم وزوجته"
"قبل أن يستشهد، أحضر لأبنائه "كومبيوتر" ليتسلى به أبناؤه وزوجته خلال فترة خروجه الطويلة، وعمله في الأنفاق، أسأل الله أن يتقبله مع الشهداءِ" يواصل والده.
أما أمه "أم إياد" وقد بدا عليه الصبر والاحتساب:" لقد نال ما تمنى، لقد كان مطيعاً لي، حنوناً علي، يساعدني، يلبي طلباتي وقتما طلبت منه"
" الله يرحمه، ويتقبله، ويدخله الجنة، وأنا سأدعو له لطالما بقيت على هذه الأرض، فنهاد غالي علينا جميعاً".
من خلفه الآلاف
رحلَ فارسُ الأنفاق، من دكّ أوكار الكفر والنفاق، ودّعه أهله وأحبابه وإخوانه، في جنازةٍ طافت شوارع المخيم، في بيعةٍ جديدة لمسيرة الجهاد والاستشهاد والمقاومة، رافعين سباباتهم معاهدين الله على المضي قدماً في ذات الدرب.
وما زالت مسيرة الإعداد والتجهيز ماضية بدماءِ الشهداءِ، وتضحياتهم، ودليلٌ على صدق منهج المقاومة.