ان صباحك الأوّل في «روضة الشهيدين» (الغبيري ــ ضاحية بيروت الجنوبية) يشبه روحك؛ جديلة من تراب وشمس. تغريدة من عصافير وقرآن، مبتلاً بالندى، ومغناجاً بالورد.
خلت الغرفة في «الجاموس» من «ربابتها»، وصار السرير فوق التراب، مكشوفاً على السماء.
إلى ضريحك إذاً، بات عليّ أن أجيء لكي أضيء لك بعد كل دمعة شمعة، ثم أصغي إلى صوت عمري وهو يُخبرني أن نظل نمضي إلى زمن شغفنا به، وإلى وذاكرة رصفناها معاً، ونتناغم في سرداب الغياب، مع صداقة هي بمستوى تاريخ من مقاومة وشهداء.
قبل أيّام، حلّت في «روضة الشهيدين» جنوبية شابة اسمها زينب عوّاض، المعروفة في ميادين الإعلام المقاوم باسم رباب الحسن (الأخبار 10/3/2015).
من هي رباب الحسن؟ إنّه اسم لا يحتاج إلى الظهور، لأنّه ارتبط بمسيرة من أفق الجبهات إلى «مطرة» الماء في جعبة كل مقاوم. صوت امتدّ إلى أبعد بكثير من حدود الفرادة في الأداء والشجى واخترق جدار القلب، ليحوّل كل خلجة إلى مرآة تعكس تجليّات روحها. وروحها كانت خيطاً موصولاً بجذوع الشجر في المحاور، ومغمّساً بوصايا الشهداء.
لم تعرف رباب الحسن إلا أن تسكن في هذا البيت، وتعرّش في هذا العالم. كان بإمكانها أن تقيم في كندا، حيث يستقرّ معظم إخوتها، وهم لطالما كانوا يطلبون منها أن تسكن بينهم. لكن روحها مشغولة من ياسمين الجنوب، وصباحاتها اعتادت الجلوس خلف أثير يطل على أرض الأبطال، وبيادر القمح.
ولأنّ عملها لم يكن وظيفة، ورصيدها شغف، كيف لك أن تتحدّث عن إنجازات، وأن تجمع ضوع العطر، أو أن تحصي دفق النهر، أو أن تتمكن من معرفة سرّ الضوء الذي تشعر به، ولا تتمكن من أن تقبض عليه.
بهذه المشهدية، لم تعد رباب شابة اعلامية، صارت حالة وقضية ، وقلائل هم الذين تهفو اليهم مؤسساتهم بعد غيابهم، لكي تتوهج وتتخلّد بهم.
قبل الإلقاء،من بدايات الزمن الجميل هي، جاءت إلى إذاعة «النور» لتؤسس مدرسة الانتماء قبل الإلقاء، وقطف أزاهير العبق الأوّل في المواجهات والعمليات، وتبعثها ورداً ورصاصاً من فوهة مذياع.
مرّ الزمان فوق الزمان، والأرض ساحات لا تهدأ، والجبهات دخان ورايات، وهي شعلة الصوت ومليكة القلوب المتزنرة ببارود وصلاة. التاريخ تاريخ، والمقاومة مسيرة لا تنتهي، ورباب الحسن، قلب مفصّل على هذا القياس. ثمة أنوار مخفية، وأسرار تبيت في القلب وحده. هكذا اكملت مسيرتها بعد عبورها إلى قناة «المنار». أميرة لا تحتاج إلى عرش. كيان يسرج الزمان في المكان، ويضج بذاكرة من دون كلام. ولمّا صار الوهج في القلب أوسع من حياة نمطية، والشغف لهذا الدرب خلجات على وتيرة صلاة في عمق الليل، كان لا بدّ من منعطف استثنائيّ يلبّيها ويرضي غايتها.
العمل من أجل المجاهدين والشهداء إنجاز مسدّد وهدف مجلل، لكن الوصول إلى خلودهم غاية في الزحف والحتف. وهي لم تعد إلا عاشقة للعبور، فكانت راضية بما انكتب لها في صفحة جهادها الأخيرة. كان المرض منذ بدايته شرساً، وكانت هي من فصيلة الصابرين، فحاربته حتى اللحظة الأخيرة، لأنّها أدركت أنّ هذا البلاء خطوتها الأخيرة. كان مطلبها الوحيد من الجميع الدعاء لها بالشفاء، وانما بقضاء يريده لها الله الذي لم يعد يؤنسها سواه، وانتظرته على مدار العام الذي البسته كل سكينة، الى حين اللقاء.