"كي الوعي" او تكريس الهزيمة النفسية والشعور بالعجز تمهيداً للاستسلام للامر الواقع، اسلوب درج العدو "الاسرائيلي" على استخدامه منذ احتلال فلسطين عام 1948، بهدف تشكيل قناعات تطبيعية انهزامية محبطة في وسطنا العربي والاسلامي، تنحرف عن بوصلة القضية الاساس فلسطين، وتنبطح تحت السقف "الاسرائيلي"، والشروط التي يمليها او يحددها، وتكريس واقع ثابت راسخ في الوعي العربي حول عدم إمكانية هزيمة "إسرائيل"، من خلال ابراز "عقدة التفوق المادي" واختلال كفة موازين القوى العسكرية لصالحها. ولعل من جملة المفارقات واشدها صدفة وغرابة ان يكون وزير الحرب الحالي موشي يعالون هو أول من أطلق مصطلح "كي الوعي" ودعا لتفعيله ضد الفلسطينيين، من خلال توجيه ضربات عسكرية ساحقة، تجبرهم على الإقرار بعجزهم عن الانتصار على كيان الاحتلال، أو حتى إكراههم على تقديم تنازلات تحت ضغط العمل المقاوم.
الصراع اذاً في موازين الوعي، أدق واعقد منه في الموازين المادية. ولعل ما يميز خطب ومواقف الامين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، هو إعادة "هندسة الوعي العربي" وفق قواعد اللعبة الجديدة، والارتقاء به من الموقع الذي يريده العدو قابعاً خانعاً فيه، موقع "المسحوق" "المنكوب" و"المنتكس" الى الموقع الذي يفترض بارادته الحرة ووطنيته وقوميته وهويته الاسلامية ان تضعه فيه وهو موقع المبادر، المناضل، المنتصر. ولعل تلك السمة برزت بشكل واضح في خطابات النصر لسيد المقاومة، وبشكل خاص في الظهورين الاخيرين لسماحته على شاشة الميادين، والاحتفال التكريمي لشهداء القنيطرة بعد عملية المقاومة في شبعا.
فليس صدفة ان نجد "الاسرائيلي" يترقب مواقف السيد نصر الله، وليس صدفة ان نجده يصادق على كلامه بل على كل حرف يجري على لسانه، من حيث يدري او لا يدري، فللمعركة العسكرية وجه آخر، وجه يتخطى الحسابات المادية والتوازنات العسكرية، ليراكم فائقاً من القوة المعنوية وشعور النصر لدى جمهور المقاومة الواسع في العالم العربي والاسلامي، في مقابل اختراق الوعي "الاسرائيلي" والاضاءة على حالة العجز والوهن التي اصابت كيانه، فـ"اسرائيل" اوهن من بيت العنكبوت ولن تكون غير كذلك"، و"الجيش الاسرائيلي واجهزته الامنية "جبانة" "عاجزة عن مواجهة المقاومة".
خطابات السيد نصر الله مدرسة كاملة مكملة في الحرب النفسية، يتحدث فيها بلغة العارف بتفاصيل ومكامن الخلل والضعف لدى العدو، يشرحها تشريحاً ويحسن انتقاء المصطلحات في تشخيصها، فيستعيد خطاب التحرير في بنت جبيل ليوصّف "اسرائيل" كما رأها آنذاك ويراها مجدداً اليوم "اوهن من بيت العنكبوت"، ليؤكد من جديد "اننا هزمناها في العام 2000 وعام 2006 وبالامس خلال عملية شبعا". هنا لا يبقى التوصيف مجرد كلام في سياق اعادة هندسة الوعي العربي والاسلامي، هنا تأكيد ولا مجال للشك بعد الآن بأن الانتصار بمواجهة "اسرائيل" حتمي، وان الانتصار الكبير الموعود بزوالها بات قاب قوسين او ادنى. وليكتمل المشهد وتبدو الصورة اوضح، يهندس سيد المقاومة الوعي العربي باتجاه البوصلة الحقيقية للمقاومة وهي فلسطين والتي لم تحد عنها يوماً رغم كل الافتراءات ويتحدث عن وحدة الجبهات بعبارة "امتزاج الدم اللبناني الايراني على ارض الجولان السورية"، وفي ذلك رسم لملامح الجبهة المستقبلية بمواجهة العدو.
انطلاقاً من ذلك ليس صدفة ان يتمحور خطاب سماحته حول فلسطين، فينطلق به من معاناتها منذ العام 1948، ليركز على السنوات الاخيرة، لا سيما بعد تراكم انتصارات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، هنا يفصل السيد نصر الله بين مرحلتين تاريخيتين، فيطوي بسطرين وكلمات معدودة مرحلة طويلة كان "الاسرائيلي" يتباهى فيها بفائض القوة والتفوق في محيط من الهزائم والانكسار العربي، ويدشن مرحلة جديدة، مرحلة انتصارات المقاومة والتي يقتضي مواكبتها بحالة من الاستنهاض والتعبئة الشعبية في صفوف الشعوب العربية والاسلامية، من خلال اعادة رسم صورة في الوعي العربي لمكامن قوته وانتصاراته، صورة مناقضة تماماً لتلك التي رسمها العدو في اذهان العرب ما بين النكبة والنكسة، عن "الجيش الذي لا يقهر" عن "اقوى جيش في الشرق الاوسط"، هنا بالضبط، وفي شبعا تحديداً قلبت المقاومة الصورة رأساً على عقب، وجعلت الجيش الاقوى في الحضيض، لا يجرؤ حتى على الرد على عملية حزب الله، يتلقى ضربة قاصمة في قمة استنفاره تهز كيانه وتضعضع حكومته، و"يلبد"، بعد ان كان يزبد ويرعد. ولعل ذلك في جزء منه هو إحدى نتائج الانتصار التاريخي والالهي في تموز 2006، وفي جزئه الآخر يعود لمعرفة العدو بتعاظم قدرات المقاومة بعد الحرب، وتحاشي استفزازها في اول احتكاك واختبار فعلي معها، بعدما بات على ما يبدو يدرك جيداً خطورة اي مواجهة مع حزب الله وكلفتها العالية، وبات يحسب للمليون قبيل ارتكاب اي حماقة في لبنان. وهنا "ينصح" سيد المقاومة العدو بطريقته وابتسامته المعهودة "جربتونا ما تجربونا".
*المستوطنون
الموقف الاسرائيلي المربك على المستوى الرسمي، ظهر منذ البداية في عدم التجرؤ على الاعتراف بمسؤوليته عن اعتداء القنيطرة، وطريقة التعامل مع استشهاد العميد الايراني. اما على مستوى المستوطنين، فظهر في حالة الهلع والرعب التي اصابتهم والتي جعلت مخيلتهم ترسم سيناريوهات حول وجود انفاق لحزب الله تحت الارض، ما اضطر وزير الحرب الاسرائيلي بعد يوم واحد من عملية شبعا وفي معرض طمأنته لمستوطنيه الى ان يعترف بامكانيات وقدرات حزب الله لا سيما ما تحدث عنه سيد المقاومة على شاشة الميادين عن معادلة الجليل، وذلك حينما اشار يعالون الى ان حزب الله ليس بحاجة الى انفاق وان طبيعة المنطقة تسمح له بالتسلل والدخول الى "اسرائيل".
السلوك الاسرائيلي وحال الرعب والخوف التي عاشها مستوطنوه، وصفه سيد المقاومة، حينما قال ان ""كل اسرائيل قادتها السياسيون وجنرالاتها العسكريون ومستوطنوها وجنودها الجميع عيونه وعقوله وآذانه على حزب الله في لبنان، على كلمة على بسمة على اشارة او موقف"، وفي ذلك اشارة واضحة لتشكل حالة الوعي الجديد لدى المستوطن الإسرائيلي عن نفسه وعن جيشه غير القادر على حمايته، وعن قيادته السياسية والعسكرية المتهورة وغير المؤهلة اولاً، وعن خصمه القادر والمبادر ثانياً، والذي استطاع ان يوقف "اسرائيل" على الحائط وعلى "اجر ونصف" بمجرد الاعلان عن شهدائه في القنيطرة وحتى قبل ان يرد على العدوان. فالوقفة على "الحيط" وفق سيد المقاومة كانت وحدها كافية لأن تقول للاسرائيلي وللعالم لا يمكنكم ان تقتلوا الناس وتناموا في بيوتكم آمنين مطمئنين.
*قيادة العدو
لم تقتصر الامور على هذا الحد، فمع عدم الرد الاسرائيلي على عملية شبعا وفي خضم توجيه الانتقادات لرئيس حكومة العدو من قبل وزرائه ومعارضيه، اقر هؤلاء بالهزيمة امام حزب الله حينما اتهموا نتنياهو بالاضرار بما اسموه "قدرة الردع الاسرائيلي". الا ان الاقرار الاقوى جاء على لسان وزير خارجية نتنياهو المتطرف افيغدور ليبرمان، الذي كرر في عدة مناسبات ان حزب الله بات يتحكم بقواعد اللعبة. وفي ذلك اقرار صريح بان زمام المبادرة لم يعد في يد "اسرائيل"، هذا من جهة، ومن جهة ثانية هاجم ليبرمان يعلون، معتبراً ان أداءه لم يعزز قوة "الردع الاسرائيلية" وان احداً لا يأخذه على محمل الجد لا حماس ولا حزب الله، وفي ذلك اشارة ضمنية لتهديدات يعالون المتكررة عقب رد المقاومة في شبعا والتي بقيت فقاعات في الهواء الطلق، وهنا ايضاً نموذج اخر لكي الوعي ليس لدى المستوطنين الصهاينة انما لدى القيادة السياسية والعسكرية في كيان العدو التي باتت تدرك حالة الضعف والعجز التي يعاني منها كيانها الغاصب، وتأخذ ذلك في الحسبان في قراراتها وخياراتها المحدودة.
*الندية والفوقية
خطاب السيد نصر الله لم يكتف بـ"الندية" بمواجهة العدو، والتي برزت في بعض محطات خطابه، سواء لجهة اشارته الى أن رد المقاومة حصل بقمة استنفار وجهوزية جيش العدو، او حين استعرض طريقة ردها في شبعا، "سيارتين مقابل سيارتين وحبة مسك.."، بل هو ذهب أبعد من ذلك بكثير لا سيما في الشق الاخير من خطابه، حينما وضع خطوطاً حمراء للاسرائيلي لايقافه عند حدوده، وفي ذلك خطوة متقدمة تظهر ان المقاومة صاحبة اليد الطولى، "فهي لا تخشى الحرب وستواجهها اذا فرضت عليها وستنتصر بها"، واشارة واضحة ايضاً الى انها باتت تمسك بالكامل بزمام المبادرة، وان "الامر لها" فهي من يرسم قواعد اللعبة بعد الآن وما على "الاسرائيلي" سوى الرضوخ لها واللعب ضمن حدودها. ولعل كلام سيد المقاومة عن عدم الاعتراف بقواعد الاشتباك، وتحصين الكادر، والرد على أي اعتداء، يندرج تحت هذا الاطار. فقد استفاد من زخم عملية شبعا وما احدثته من ردود فعل في الشارع العربي والفلسطييني، وعرف كيف يوظفها ويعيد ترتيب اوراق القوة وهندسة الوعي العربي والاسلامي على قاعدة الانتصارات المتلاحقة من لبنان الى فلسطين، وعرف كيف يمحو صورة "اسرائيل" الفولاذية والصلبة المتفوقة ويجعل منها "بيتاً للعنكبوت"، مخترقاً جدار الوعي الاسرائيلي على اعلى المستويات، ومحققاً بذلك انتصاراً معنوياً اعطى زخماً وابعاداً لا متناهية للانتصار العسكري الذي حققه مجاهدو المقاومة في ميدان شبعا، فاذا بتداعياته وارتداداته تتردد في كل الميادين والساحات، تزلزل كيان العدو وحكومته وترعب مستوطنيه، وتحصن الوطن امام الاستباحة المستدامة، وتؤسس لمرحلة جديدة في صراع "كي الوعي" مع العدو الاسرائيلي، مرحلة استطاعت فيها المقاومة ان تكوي وعي الإسرائيلي وتعوده على الخشية منها، وعدم العبث معها، وان تستنهض الوعي العربي وترتقي به الى الاقتدار والقوة واستعادة طاقاته وقدراته وارادته وحريته المسلوبة، علّ ذلك يكون مقدمة لاستعادة هويته وكيانه وارضه المصلوبة.
علي عوباني - العهد