لا شيء يمكن أن يطغى على الإحساس بالتقصير أمام ما يقدّمه الشهداء من أعمال يحلم في تحقيقها السائرون خلف نعوشهم. وكأنهم يشاهدون فيلماً أميركياً، أبطاله حقيقيون من أعداء أميركا نفسها، يرفعون شعار «الموت لأميركا، والموت لاسرائيل». يقول محمد (37 سنة) «كم هي مفيدة هذه الأفلام لأنها تجعلنا نسخر من أبطالها وأمامنا مشاهد مماثلة وحقيقية تحصل على أراضينا، بأيادي رفاقنا وأقربائنا».
يؤكد محمد أن أول لحظة شجعته على التفرغ للعمل العسكري المقاوم، قبل عشرين سنة كانت «لحظة تشييع شهيد عزيز في بلدتي، شهيد لم أكن أتصوّر ما يفعله في غفلة من أقربائه ومحبيه على الجبهة مع اسرائيل». أخبار البطولات هذه كانت «تدخل صميم القلب وتنبض مع نبضاته وكأنها تضخّ في أجسادنا دماءً جديدة تغيّر طريقة تفكيرنا وتجعلنا أكثر جرأة وشجاعة، وتوجهنا طوعاً للالتحاق بأول دورة عسكرية، سرعان ما تحولنا الى أبطال بدورنا».
يعي محمد والعديد من رفاقه أن ما وصلت إليه المقاومة من انتصارات خلال أكثر من عشرين سنة من العمل سهّل عليهم كثيراً متابعة المسيرة، «فلم يعد العمل العسكري صعباً جداً على الشباب الجدد، بعدما جرى تأمين وسائل كثيرة تمهد للعمل العسكري، عدا عن الدعم المعنوي الذي يحصل عليه المقاومون من محيطهم الاجتماعي». في الماضي القريب كان العمل المقاوم لأمثال شهيد القنيطرة، محمد عيسى (أبو عيسى)، أمراً محظوراً حتى في مجتمعه الصغير في بداية الثمانينيات، في زمن آمن فيه الناس أن العين لا تقاوم المخرز، «وكان سقوط الشهداء الأوائل مثل الشتوة الأولى».
لم تتغير دماء الشهداء، بل ازداد حجمها. ولم يتغيّر التشييع بل ازداد عدد المشيعين، ومعهم تزداد أعداد المقاتلين المقاومين، لكن للقديم عنفوانه المختلف وآثاره المختلفة. يفسّر المقاوم المخضرم الحاج يوسف كلام محمد: «منذ بداية العمل المقاوم كان لتشييع الشهداء وقعاً مختلفاً في نفوس الأهالي، الذين كانوا لا يزالون نائمين في سبات الهزائم العربية المتتالية». يذكر كيف كان شقيقه يتسلل ليلاً من نافذة المنزل ويعود فجراً، كي لا يعلم أهله بعمله المقاوم، لأنهم حتماً سيواجهونه ويحاولون منعه من حمل السلاح، خوفاً عليه، واقتناعاً منهم بأن في الأمر مجازفة قد تحرق البلدة بكاملها، وقتها «كان على الأخ أن يؤمّن قوت أخيه من عمل آخر، كما عليه أن يخفي سرّاً كبيراً وإلا حصلت كارثة».
ويذكر أحمد ( 45 سنة) كيف خرق جدار الهزيمة، نبأ استشهاد الشهيد أمثل حكيم بعد عملية نفذها مع رفاقه في صيف عام 1985 في محيط بلدته شقرا أدّت الى مقتل 13 جندياً اسرائيلياً. يومها تغيّر المشهد عند الأهالي، أو بدأ يتغير على الأقل، «هناك أبطال تجرأوا وقاتلوا وقتلوا العشرات من الاسرائيليين، في زمن كان فيه الأهالي يحاولون إخفاء أي اثر قد يوحي بأنهم من رحم المقاومة، حتى أن بعضهم غيّر أسماء أولاده التي توحي بالثورة قناعة بأن الاحتلال باق، وهو الزمن عينه الذي اغتيل فيه شهيدان من البلدة عينها لأن مواقفهما كانت ضد الاحتلال وهما السيد عبد اللطيف الأمين ومحمد خليل حب الله».
تحدّث أبناء البلدة حينها كثيراً، ولو بصوت منخفض داخل بيوتهم المغلقة جيداً، عن أن عدداً كبيراً من الجنود الاسرائيليين قتلوا في العملية التي نفذها الشهيد أمثل ورفاقه، «سعادة لا توصف وقتها، مع دموع سخية جداً ذرفها أبناء البلدة على شهيدهم الأول، ولتشييعه قصة أخرى، تروي كيف انتصر شهيد بكسره قاعدة الخوف الذي صنعه الاحتلال على مدى سنوات، وكأن هذه الدماء غسلت جبلاً من الذنوب التي بذرتها الهزائم العربية».
لاستشهاد أمثل حكاية أخرى في قرية مجاورة: «عندما نقل جنود العملاء جثته الى القرية وحاولوا دوسها بأرجلهم أمام ضابط اسرائيلي، لعلهم يحظون برضاه، فما كان من الأخير الا أن أبعدهم وتقدّم وألقى التحية لجثمان الشهيد، قائلاً هذه التحية للذي يدافع عن أرضه وبلده».
كان دخول الجيش الاسرائيلي الى القرى الجنوبية سهلاً جداً، فالأمر يحتاج الى الوقت الذي ستسلك فيه الدبابات المجنزرة طرق وأودية القرى الجنوبية. بعد «عملية الأسيرين» عام 1986 في بلدة كونين، دخلت الدبابات المجنزرة بسرعة الى القرى التي كانت قد انسحبت منها في قضائي بنت جبيل ومرجعيون، والطائرات المروحية تحلّق على مستوى منخفض جداً، يومها سلّم العشرات من شبان المنطقة أنفسهم، لمجرد أن العدو طلب ذلك، كان الخوف سيد الموقف، «كنا انهزاميين نفسياً ومعنويين، حواجز نفسية بيننا وبين فكرة الانتصار خلقتها هزائم العرب منذ عام 1948 خصوصاً في المنطقة الحدودية مع فلسطين المحتلة، كان من المستحيل التفكير بالنصر، وكان العدو الاسرائيلي يدوس بأقدامه كلّ القرى من دون أن تطلق رصاصة واحدة، حتى بدأت دماء الشهداء تسقي تراب القرى، كنا نرى الدموع في عيون النساء والأطفال والرجال الذين لم يحملوا السلاح يوماً، والذين كانوا، قبل هذه الدموع، يطالبوننا بالامتناع عن المجازفة» يقولها أحد المقاومين، لافتاً الى أن «الدماء الأولى خرقت جدار الهزيمة، ومن خلالها عرفنا أن العدو يمكن أن ينهزم، لذلك كان مشهد التشييع أمراً مختلفاً زرع في نفوسنا أمل النصر في زمن الهزائم، وهو نفسه اليوم يؤكد لنا أن المجد لبلدنا لا كان ولن يكون الا بدماء هؤلاء».
الأمر نفسه تكرّر مع بداية دخول رجال المقاومة الى سوريا لمواجهة خطر الإرهاب التكفيري الآتي الينا «شعرنا بأن بعض أبناء منطقتنا لا يتقبلون الأمر، ويعزّ عليهم استشهاد أولادهم في سوريا، لكن سرعان ما تبدّل ذلك. فقد بدأ الأهالي يقدمون كل شبابهم للمشاركة في القتال، وبعد تشييع كل شهيد يزداد عدد المتطوعين للمشاركة، حتى أن أحد أبناء المنطقة، وهو وحيد لأهله، أصرّ على المشاركة في القتال، لكن حزب الله رفض ذلك بشدة، الى أن حضر والداه وطلبا بإلحاح عدم منع ولدهما من المشاركة، وقدما تعهداً شخصياً بأنهما يصرّان على ذلك».