كان الشهيد حسن ابراهيم في الثانية عشرة من عمره، عندما اجتاحت إسرائيل لبنان في عام 1982. انتظر طويلاً مع عائلته، عند معبر باتر الذي أقامه الإسرائيليون في منطقة جزين، لكي يصل إلى بيروت. في ذلك اليوم تجاوزت ملاحظات الفتى لجرائم الاحتلال، الحزن إلى الفعل. وجد مجموعة من مفاتيح الآليات الإسرائيلية، تناولها وأخفى يده خلف ظهره. ارتبكت أخته الصغيرة، فهمس لها: «بدي أعمل شي يعطّل الإسرائيلي». أما أمّه التي خافت وحاولت أن تقنعه بأن لا يثير المشاكل، فقد تأخرت في توجيه نصائحها، كان قد أنجز مهمته الأولى في العمل المقاوم، فأجابها ضاحكاً: «المفاتيح صاروا بالخلّة (الوادي)».
لا تختلف طفولة حسن عن طفولة الجنوبيين الذين عاشوا مرارة الاحتلال الإسرائيلي. وفي يحمر الشقيف، أو «أمّ الشهداء» كما تعرف، لا يمكن للعبارة الجنوبية التي تتكرّر «قضّينا من الإسرائيليي» أن لا تثمر فعل مقاومة. هذه كانت حال البلدة التي تقدّم الشهداء عند كلّ استحقاق. من الثورة ضد العثمانيين ثم الفرنسيين، مروراً بثورة 1958 ضد الرئيس كميل شمعون، وليس انتهاء بالمشاركة في مواجهة كلّ الاعتداءات والحروب التي شنّتها إسرائيل على لبنان. عقود من المقاومة رسّخت لدى الكثيرين اقتناعاً بضرورة محاربة إسرائيل إلى النهاية. «هذا هو طريق الحق» يقول أبو حسن ابراهيم. ولأنه يعرف ذلك، لا يملك إلا الصبر، بعدما قدّم شهيدين خدمة لهذا الطريق: ابنه حسن وحفيده علي.
أول من أمس، وارى الجدّ جسد حفيده في قبر ملاصق لقبر والده، وجلس يتقبّل العزاء. يدخل الرجال، يقبّلونه مباركين أو مواسين، فيقول لنا «كلّهم آباء شهداء». طبعاً «الألم لا يوجع إلا صاحبه» يقول معترفاً بحزنه، لكن تماسكه وفخره لدى الحديث عن الشهيدين يعكسان اقتناعاً بخيار الشهيدين. قصة هذا الجد قد تختصر قليلاً قصة المقاومة مع أبنائها. الأب الجنوبي، الذي هجّره الإسرائيليون من بلدته لسنوات، فسافر إلى السعودية بحثاً عن رزقه، فوجئ بقرار ابنه البكر الالتحاق بالعمل المقاوم.
«حاولت إغراءه بالدنيا»، يقول. أعطاه مفتاح السيارة وقال له «هي لك». عرض عليه أن يقدّم له ما يشاء. لكن الشاب لم يوافق: «أنا ما بنغرّ بالدنيا» أجابه. زوّجه باكراً، في الحادية والعشرين من العمر، لكن الزواج لم يمنعه من الاستمرار في الطريق التي اختارها. وكانت الخاتمة في حديث دار بينهما، لا يزال الوالد يحفظه جيداً. «قال لي: منذ الآن أقول لك، اعتبرني شهيداً حياً. أجبته: أنا كبرت يتيماً يا حسن، فقدت أبي وأنا في الثالثة من عمري. هل تريد أن يكبر أولادك أيتاماً؟ هل تريدني أن أربي أيتاماً؟ ردّ عليه: أريدك أن تتحلى بالصبر وتجد في أئمتنا أسوة لك».
بعد هذا الحديث، عاهد الوالد نفسه أن لا يفاجأ في حال تلقى خبر استشهاد حسن، الذي لم يتأخر طويلاً. كان قد عاد إلى لبنان، والتحق بالعمل في شركة كهرباء لبنان، عندما تلقى اتصالاً من صديق له يطلب منه الحضور للضرورة.
لم ينتظر ليعرف ما حصل، قال لمحدّثه عبر الهاتف: «استشهد حسن؟». يومها تحلى برباطة جأش، وقاد السيارة بنفسه، في حين كان الشخص الذي أبلغه الخبر يضرب رأسه منهاراً. وانتظرت العائلة عامين ونصف قبل أن تسترد جثمان ابنها في عملية التبادل التي حصلت عام 1996.
ويوم الأحد الفائت، عندما انتشر الخبر عن استهداف موكب في القنيطرة، لاحظ أبو حسن أن ابنه يتلقى الكثير من الاتصالات. سأله: «هل هناك شهداء من يحمر؟». أجابه: «لا، لكنهم يشكون في أن يكون هناك شاب نعرفه استشهد». بعدها، اتصل مصطفى، شقيق الشهيد علي، وطلب من جده أن يأتي إلى بيروت لأن علي أصيب إصابة خطرة. أجابه: «بل قل إنه استشهد». هذه المرة لم يكن هو من قاد السيارة، بل ابنه.
عندما استشهد حسن، كان في السابعة والعشرين من عمره، والداً لثلاثة أطفال أصغرهم علي الذي لم يكن قد أكمل عامه الأول بعد. لم تعرف العائلة الكثير عن طبيعة عمل الشهيد حسن. لكن السرية التي أحاطت بالعملية التي استشهد فيها تجعلهم على يقين بأنه كان يقوم بعمل مميّز. وهذا ما علّمته العائلة لأطفال حسن، الذين كبروا في كنف جدهم ووالدتهم. وعندما عاد الجد إلى يحمر بعد التحرير «بقي علي يزورنا، وغالباً ما كان يتصل بجدته ليخبرها أنه سينام هنا فتترك له المفتاح في مكان يعرفه في حال وصوله متأخراً».
على الرغم من هذه العلاقة الوطيدة، لم يعرف أحد شيئاً عن طبيعة عمل الشاب ابن الحادية والعشرين من العمر «كان مثل أبيه، هو دم أبيه، وكلام أبيه، وسرية أبيه» يقول جدّه. لكن، قبل شهر تقريباً، عرف الجميع أنه يذهب إلى سوريا.
فقد أحضر معه كيساً من الزيتون وطلب من جدّته أن «تكبسه» لكي يأكل منه مع رفاقه. تقول الجدّة: «كانت الحبة كبيرة، وعندما كبستها وفق الطريقة التي أعرفها شعرت بأنها ستذبل سريعاً. أخبرت جارتي بأن هذا الزيتون لم ينجح معي فقالت لي عندما رأته: هذا زيتون سوري، ويكبس بطريقة مختلفة». هكذا عرفت الجدة أين يغيب علي، لكنها كتمت قلقها، وتعلّمت الطريقة الأفضل لكبس الزيتون السوري «ولم أعرف إن كان قد أكل منه أو لا».
أم حسن أيضاً رابطة الجأش. هكذا علّمها ابنها، الذي كان يرفض توديعها كلّما توجّه في مهمة ما. «أما علي، فكنت أشمّه شمّاً». تضحك وهي تتذكر كيف كانت تطلب منه أن ينحني لتستطيع تقبيله «بما أنه طويل وأنا قصيرة». تتذكر عدد القبلات، وتلك التي كانت تخصّه بها قائلة له «هذه من والدك». لا تبكي، وهي التي تفقد مجدداً أحد أولاد حسن «الذين كبروا وصاروا يزورونني وأفرح بهم». يوم استشهد حسن، صرخت صرختين فقط، ثم خرجت لملاقاة الناس. يومها، زار الشهيد أخته في المنام وقال لها «أنا سعيد لأن أمي تصرّفت بهذه الطريقة».
عرفت الأم أن ابنها يراها، فقرّرت أن لا تفعل إلا ما يرضيه. عيناها الحمراوان تكشفان بكاء طويلاً بعيداً عن أنظار المعزّين، وكذلك حركة يديها المتوترة على حافة الكنبة. «لكنه قدرنا. هذه هي إسرائيل، وهي لم تغيّر عاداتها، فلن نغيّر عاداتنا» تقول وهي تدعو للمقاومين «يحميهم ربي كيف ما راحوا».
أما الجدّ فيختم: «شهداؤنا عظماؤنا، ونقول لإسرائيل نحن أقوى منك وحرب 2006 تشهد».