علي الموسوي
بمجرّد ظهور نائب رئيس فرع التحقيق في لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الضابط السويدي بو استروم على شاشة التلفزيون، كاشفاً أسراراً معلومة وأخرى مجهولة عن مسار التحقيق في هذه القضيّة، حتّى استفاقت ماكينة فبركة شهود الزور من نومتها الكهفية، واستعادت نشاطها وهمّتها، في محاولة منها للظهور بمظهر المفترى عليه، معتمدةً أسلوب الهجوم كأفضل سبل الدفاع، من دون أن تغفل عن إطلاق العنان لقاموسها الواسع في السباب والشتائم والكلمات التي تشبه تفرّدها بالتلاعب بالتحقيق منذ عهد القاضي الألماني ديتليف ميليس.
ولا يوجد أيّ تفسير واضح لهذه الهجمة على بو استروم سوى محاولة قادة شهود الزور العلنيين من سعد الدين الحريري وأشرف ريفي وفارس خشّان، قطع الطريق على ملاحقتهم، وإعادة تحريك موضوع افترائهم الجنائي على الضبّاط الأربعة، وشعار الحقيقة الذي تخفّوا تحت عباءته الفضفاضة، سنوات عديدة، حتّى تمكّنوا من السيطرة على البلاد للتحكّم بالعباد.
ولم ينصبّ دفاع هؤلاء عن رئيس "فرع المعلومات" السابق الضابط المُعاد إلى وظيفته، وسام الحسن، بقدر دفاعهم عن أنفسهم، وهم يعرفون في قرارة أنفسهم أنّ ملاحقة الميت ساقطة قانونياً، ولا إمكانية لمحاكمة الحسن الذي نجا بموته من الملاحقة القضائية في يوم ما، ولذلك، فإنّ الخوف الذي اعتراهم من كلام بو استروم، مؤدّاه الخشية على أنفسهم من إنزال ملفّ شهود الزور عن رفّ النسيان وتحريكه مجدّداً بما يطالهم قانونياً، ويعرّضهم للتوقيف والمساءلة والاستجواب والسجن، وهو أمر لا يمكنهم تحمّله، لأنّه ينسف كلّ ما بنوه، بالاستثمار السياسي لاغتيال الحريري، من أمجاد أوصلتهم إلى سدّة السلطة في لبنان، ورهن سيادة هذا البلد الصغير لمشاريع دولية وإقليمية.
وما قاله بو استروم عن تأخّر وسام الحسن عن الانضمام إلى موكب الحريري قبل توجّهه إلى المجلس النيابي صبيحة يوم الاثنين في 14 شباط 2005، بداعي خضوعه لامتحان جامعي، لم يعد سرّاً منذ سنوات، وهو أمر مكشوف ومحكى عنه، وتمّ تداوله في الغرف المغلقة والصالونات والكواليس السياسية، ولم يُعِرْه المسؤولون عن استمرار التحقيق باغتيال الحريري، أيّة أهمية، سوى التشويش المؤقّت عليه بادعاء إجراء تحقيق سرّي سرعان ما خَفُتَ بريقه، وأنطفأ تدريجياً، وسحب من التداول، وكأنّه لم يكن، ولم تعرف نتائجه بعكس الكثير من التحقيقات التي يُشهّر بأصحابها ويعتدى فيها على حقوقهم الإنسانية، وعلى قرينة البراءة.
واللافت للنظر أنّ ملقّن بعض الشهود إفاداتهم التضليلية، والمدعي العام التلفزيوني فارس خشّان، استبق عرض تلفزيون " الجديد" لمقابلته مع المحقّق بو استروم، يوم الثلاثاء الواقع فيه 10 كانون الأوّل 2013، واستعاد عبر موقعه الإلكتروني "يقال نت"، ما قاله بو استروم ضمن حلقة تلفزيونية بثّتها محطّة "سي.بي.سي" الكندية في شهر تشرين الثاني من العام 2010، وحاول تفنيدها من وجهة نظره المنحازة بطبيعة الحال، فتجاهل اسم بو استروم ووصفه بالمحقّق المجهول الهوّية، وادعى في جملة ما ادعى، أنّ الحريري الابن استهجن، وهو متوقّع وليس جديداً، وأنّ "المحقّقين العارفين بخفايا الأمور أعربوا عن اشمئزازهم من هذه اللعبة الوسخة"، فكيف للمحقّقين المنعوتين بالعارفين أن يقولوا هذا الكلام، فيما رئيسهم بو استروم العارف بالخفايا والخبايا أكثر منهم، هو صاحب الاتهام؟ وكيف يصبح هؤلاء عارفين ورئيسهم مجهول الهوية؟، وما هذا التحوير واللعب الكلامي سوى أسلوب صحافي مقيت.
ولم يكتف خشّان بهذا الجهد الجبّار في التعتيم والتضليل، بل اتصل بعد بثّ "الجديد" للمقابلة، بصديقه ميليس وسأله عن رأيه بما أثاره بو استروم عن الحسن، ولم يتردّد ميليس كعادته في إبداء رأيه ولو في غير محلّه القانوني السليم، فقال: "هذه وجهة نظر وأفكار خاصة بنائب رئيس فرع التحقيق السابق في لجنة التحقيق الدولية المستقلّة. خلال ولايتي، وسام الحسن لم يكن، في أيّ مرّة، مشتبهاً به في القضيّة".
ومن الطبيعي ألاّ يشتبه ميليس بالحسن، فهما شكّلا مع آخرين فريقاً متضامناً وموحّداً لصرف الأنظار عن الحقيقة، وعن قتلة الحريري الفعليين، ومن الطبيعي ألاّ يشتبه ميليس بالحسن، لأنّ هدف ميليس لم يكن كشف الجناة، بل التمهيد لفرار الفاعلين، والتصويب على سوريا ضمن اللعبة السياسية القائمة لتطويقها ومحاصرتها وتغيير نظامها الواقف في خندق المقاومة والممانعة.
وتابع خشّان نشاطه، مستشهداً ببيان مدير عام وزارة العدل السابق القاضي المتقاعد عمر الناطور الذي لم تكن له أيّة علاقة بلجنة التحقيق لا من قريب ولا من بعيد، باستثناء حضور لقاءاتها مع وزير العدل، وهو حاول أن ينضمّ إلى صفوف القضاة اللبنانيين المختارين لعضوية المحكمة الخاصة بلبنان بغية الاستفادة مثلهم من الرواتب المالية العالية، غير أنّ ظنّه خاب، بعدما فشل في إقناع مجلس القضاء الأعلى بتسميته ولو مساعداً للمدعي العام، لأنّ صديقه النائب العام التمييزي المتقاعد سعيد ميرزا كان قد هيّأ القاضية العاملة معه جوسلين ثابت لكي تكون نائبة المدعي العام الدولي.
أمّا بخصوص قول الناطور "إنّ الاتهام الذي حاول أستروم إلباسه للشهيد اللواء وسام الحسن، لا يعدو كونه استنتاجاً شخصياً غير مستند الى أيّ وقائع علمية، ولا على أدلّة دامغة، وبالتالي، ليس من شأن بو أستروم أو غيره من المحقّقين أن يُقرّر، وهذا ما يعود حصراً، للمحكمة الدولية"، فهذا الرأي يخالف الأصول، ذلك أنّ ما قاله بو أستروم الضليع بالتحقيق أكثر من خشّان والناطور وسواهما، يستند إلى تحقيقات لجنة التحقيق الدولية وما كانت تفكّر فيه خلال مرحلة الاستنتاج وربط حلقات التحقيق للتوصّل إلى ما يفيدها، ولو لم يلفت نظرها تهرّب الحسن من الانضمام إلى موكب الحريري راسماً علامات استفهام حول هذا التصرّف غير المنطقي، لما ضيّعت وقتها بالتحقيق فيه، قبل أن يطلب منها تجاوزه لغاية في نفس القتلة الحقيقيين.
ومن حقّ بو أستروم أن يقول وجهة نظره في سلوك الحسن المريب، وأن يشكّ فيه، وليس من حقّ أحد أن يمنعه من التفكير بذلك ضمن عمله التحقيقي. أمّا القول إنّ هذا الفعل يقع ضمن اختصاص المحكمة، فالكلّ يعرف أنّ لجنة التحقيق مهّدت لقيام المحكمة، فكيف يستوي قولها في مكان عندما يكون الاتهام موجّهاً إلى سوريا ومن ثمّ الضبّاط الأربعة، ويصبح هذا القول مرفوضاً جملة وتفصيلاً، عندما يتناول وسام الحسن بالاتهام المباشر؟.
وبالعودة إلى ما أدلى به بو استروم في مقابلته، فهو لم يقل كلّ الحقيقة، وكرّر وقائع معروفة، وأعطى معلومات مغلوطة منها أنّ الضبّاط الأربعة نزلوا إلى مسرح الجريمة في محلّة عين المريسة فور وقوع الاغتيال، بينما الواقع هو أنّ مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج نزل منفرداً وتابع على الأرض مجريات التحقيق الأوّلي، لأنّ الجريمة تقع ضمن صلاحيات مديريته كضابطة عدلية، ولا علاقة للضبّاط الآخرين بها، وهم تابعوها عن كثب، لأنّ الشخصية المستهدفة هي رئيس حكومة سابق وله ثقله السياسي وحضوره في الحياة السياسية اللبنانية.
وتحاشى بو أستروم تسمية من كان يقف وراء شهود الزور الثلاثة السوريين محمّد زهير الصدّيق وهسام هسام والفلسطيني عبد الباسط بني عودة الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية، كما أنّه لم يقل من أحضرهم إلى لجنة التحقيق، وهو أمر في غاية الأهميّة، ولكنّه معروف ولم يعد سرّاً، فرئيس "فرع المعلومات" آنذاك الرائد سمير شحادة، تعاون مع خشّان على تلقين هسام شهادته، ثمّ اتصل اللواء المتقاعد أشرف ريفي بلجنة التحقيق مدعياً وجود"صيد ثمين" لديه، وبدلاً من إرسال هسام إلى اللجنة في مقرّها في "المونتيفردي"، حضر بو أستروم إلى مكتب ريفي في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والتقاه في 27 حزيران 2005.
أمّا بشأن الصدّيق، فالتقاه بو أستروم في 26 تموز 2005، في ماربيا في جنوب إسبانيا وكان برفقته زميله المحقّق الدولي ماتي رايكونين.
وفيما يتعلّق بالشاهد بني عودة، فهو وبحكم وجوده في السويد اتصل بالمحقّق بو أستروم، مدعياً أنّ لديه معلومات وافرة عن قتلة الحريري، ولم يكن الأمر سوى كذبة جديدة أضافها إلى رصيده العامر بمثيلاتها وتسبّب بعضها بوضعه في سجن رومية المركزي، وكان ذلك قبل سنوات من اغتيال الحريري.