في مثل هذا اليوم من العام 1982 كان الفلسطينيون يعيشون محنتهم الثانية بعد التهجير واغتصاب الأرض. في لبنان.. طرق الارهابيون أبواب المخيمات.. فكانت النتيجة عشرات الشهداء والجرحى في صبرا وشاتيلا.
وبعد واحد وثلاثين عاماً تستمر الذكرى حيّة في ضمير الأمة.. وجرحاً نازفاً في جسد المخيمات الفلسطينية في لبنان.
الصحافة العالمية تؤرّخ للمجزرة
مجزرة "أيلول الأسود" أرّخت لها الصحافة العالمية في حينه، فكتب مراسل هيئة الإذاعة البريطانية بوب جافز قائلاً:
"حين وصلنا إلى المخيم صباح اليوم رأينا عشرات النساء الخائفات يركضن فراراً، وقلن لنا: ان رجالاً من الميليشيات عادوا إلى المخيم.
وما زالت عشرات الجثث مطروحة حيث سقطت يوم الجمعة أو السبت حين دخل المسلحون المخيم، وقتل البعض وهم يحاولون الفرار. آخرون أمام الجدران أعدموا بلا رحمة، واقتحم المسلحون بيوتاً، وحصدوا عائلات بأكملها وهم يتناولون العشاء أو يشاهدون التلفزيون.
ولا وجه لمناقشة الأعداد حتى بالتقديرات التقريبية. فكل زيارة تكشف عن حارة جديدة غاصة بالجثث أو عن بيت غاص بالموتى. ولكن المشكلة الحقيقية هي ان رجال الميليشيات استخدموا بعد المجزرة جرافات ليزيلوا حطام المباني المتهدمة فوق الجثث.
وأجمع كل الموجودين في المخيم على أمرين، الأول ان المجزرة اقترفها رجال من ميليشيات سعد حداد المسيحية و"الكتائبيين"، والفريقان حليفان وثيقان لإسرائيل، والثاني ان الجنود الإسرائيليين لم يحركوا ساكناً أو سمحوا باستمرار القتل".
في تقرير لمراسلها في بيروت سامي كينز، نقلت وكالة "فرانس برس" الصورة التالية عن المجزرة:
"في منزل يقع في نهاية ممر ضيق غرفة مظلمة تفترش أرضها مراتب تناثرت فوقها خمس جثث تلتصق بعضها ببعض لرجل وسيدة وصبيين وطفل رضيع اغتيلوا وهم نائمون.
وتتوالى مشاهد الرعب في مخيمي صبرا وشاتيلا للفلسطينيين حيث ألقيت في ممر آخر صغير خمس جثث تغطيها الدماء، وقد انتفخت وجوه الضحايا. لقد أعدموا رمياً بالرصاص في غرفة قبل إلقاء جثثهم خارج المنزل ليتجمع الذباب فوقها ويا لها من بشاعة!
لقد اقتحمت عناصر مسلحة المنازل، وأزاحت الجرافات السيارات وألقتها على جدران المساكن، وتنتشر في بعض الساحات أعداد من الحمير والخيول النافقة، وفي المنازل أوان تمتلئ بالطعام موضوعة فوق المواقد.
وفي أحد الشوارع اغتيلت عائلة حاولت الفرار مع أطفالها، ويتحرك طفل رضيع يرتدي فانلة حمراء بين ذراعي والدته وهو ينظر هنا وهناك.
وعلى مقربة من هذا المكان يمكن مشاهدة ركام من الجثث تناثرت بشكل مثير. وتحت إحدى عربات النقل جثث 15 من الشباب يبدو انه تم جمعهم هنا قبل قتلهم. لقد تحطمت رؤوسهم، وشوهت وجوههم بطلقات الرصاص.
وعلى جانبي الطريق الرئيسي المؤدي من مخيم صبرا إلى مخيم شاتيلا تنتشر جثث القتلى ومن بينها جثث المسنين على الأرصفة، وقد اغتيل شيخ مسن بجانب عربته الصغيرة وقد ظلت قنبلة منزوعة الفتيل تحت ساقه.
وفي مخيم شاتيلا الخالي تماماً من سكانه يحاول بعض الناجين من الرجال والنساء والأطفال حمل بعض حاجياتهم قبل ان يلوذوا بالفرار. وتصرخ النساء وهن يشرن إلى جثث أعضاء أسرهن الذين قتلوا".
روبرت فيسك في كتابه "ويلات وطن": إنه أفظع عمل ارهابي في تاريخ الشرق الأوسط الحديث
وفي كتابه "ويلات وطن"، يصف الصحافي البريطاني روبرت فيسك المجزرة بالقول "كان هناك متراس عال مغطّى بالرمل والتراب، ويرتفع نحو 12 قدماً. وكان من الواضح أن إحدى الجرافات أقامته قبل ساعات. وصعدت بصعوبة على أحد جوانبه وقدماي تنزلقان فوق كتل القذارة الإنسانية. وفقدت توازني عند القمة، فاستندت إلى عمود من الحجر المسوّد الناتئ من الأرض. وسرعان ما تبين أنه ليس حجراً لأنه كان دافئاً ولزجاً ولصق بيدي. وعندما أمعنت النظر إليه وجدت أنه كوع إنسان مغروس في الأرض.
يا لهول ما رأيت! وجدت نفسي ألقي بالكوع بذعر وهلع وأنفض لحم الميت عن سروالي، وأقفز الخطوات الأخيرة نحن قمة الحاجز. لكن الرائحة كانت مرعبة. وفجأة رأيت تحت قدمي وجهاً ينظر إلي وقد طار نصف فمه. وكان من الواضح أنه أصيب برصاصة أو طعن بسكين. أما النصف الثاني من فمه فكان يعجّ بالذباب. وحاولت أن أنظر إليه. ورأيت جنكنز وتفايت يقفان بعيداً بجانب بضع جثث تكومت أمام أحد الجدران. ولم أستطع أن أصرخ طالباً مساعدتهما خوفاً من أن أصاب بمرض إذا فتحت فمي.
مشيت على قمة الحاجز، وأخذت أبحث كاليائس المستميت عن مكان أقفز منه إلى الجانب الآخر. لكن وجدت أنني كلما تقدمت خطوة، ارتفع التراب أمامي. وأخذ الحاجز كله يهتز اهتزازاً مخيفاً تحت قدمي. وعندما نظرت إلى الأسفل تبين لي أن الرمل لم يكن إلا غطاء رقيقاً وضع لإخفاء الوجوه والأطراف البشرية عن الأعين".
وأضاف "دبلوماسي نروجي من زملاء آن ـ كارينا حضر بسيارته قبل بضع ساعات، وشاهد جرافة تحمل في مغرفتها الحديدية نحو اثنتي عشرة جثة تدلت منها الأذرع والأرجل. من الذي حفر الأرض بهذه المهارة؟ من الذي كان يسوق الجرافة؟ شيء واحد كنا متأكدين منه وهو أن الاسرائيليين يعرفون ما حدث، وأنهم شهدوا حدوثه، وأن حلفاءهم من الكتائبيين ومسلحي سعد حداد أرسلوا إلى شاتيلا فاقترفوا جريمة القتل الجماعية هذه.
إنه أفظع عمل ارهابي في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وهو الأكبر حجماً وزمناً، وارتكبه أفراد يعرفون تمام المعرفة أنهم يذبحون أناساً أبرياء"، يقول فيسك.
شهادة مجرم: أحرقوا الأرض.. لا تتركوا أي شاهد حي
وبتاريخ 14/2/1983 نشرت مجلة "ديرشبيغل" الألمانية شهادة لأحد عناصر الميليشيات التي ارتكبت مجازر صبرا وشاتيلا تحت عنوان: "كل منكم منتقم". يقول المجرم في شهادته "تقدمنا إلى المخيم حيث حصلنا على مساعدة الاسرائيليين الذين أناروا المنطقة بالقنابل المضيئة لتحديد الصديق من العدو، مشاهد مروعة أخذت تظهر مدى مقدرة الفلسطينيين. بعض المسلحين اختبأوا خلف بعض الحمير في طريق ضيق شمال المخيم، ولسوء الحظ اضطررنا لاطلاق النار على هذه الحيوانات المسكينة كي نستطيع قتل الفلسطينيين المختبئين خلفها. لقد تأذت مشاعري عند سماع صراخ هذه الحيوانات الجريحة (...). في الرابعة صباحاً عادت مجموعاتنا إلى الشاحنات، يبدو حتى الآن أنه لم تستعمل سوى شاحنة واحدة، توجهنا للحدث لأخذ قسط من الراحة، وعند الفجر عدنا للمخيم.
مررنا بجثث متناثرة وأخرى مُكومة بعضها مقتول بالرصاص والبعض الآخر مطعون بالحراب. كلهم شهود. ماذا نستطيع ان نفعل عدا ذلك لقتل المزيد؟ ذلك هيّن بعد ان تكون قد قمت بمثل هذا العمل سابقاً.
الآن أول جرافة (بلدوزر) اسرائيلية وصلت.
"أحرقوا الأرض، لا تتركوا أي شاهد حي، اعملوا كل شيء بسرعة" هكذا كانت أوامر قادتنا".
لم يحاول أي زعيم عربي على مدى 30 عاماً زيارة مقبرة جماعية تضم 600 من أصل 1700 فلسطيني
أمّا اليوم، فالأبلغ قولاً هو ما أشار اليه المؤرّخ روبرت فيسك قبل عام في الذكرى الثلاثين لمجازر صبرا وشاتيلا من أن "رؤساء دول وحكومات يصطفون في مانهاتن لتأبين ضحايا أحداث 11 سبتمبر، في حين لم يتجرأ زعيم غربي على زيارة القبور الجماعية التي تغطيها أشجار قذرة وصور باهتة للضحايا في صبرا وشاتيلا. كما أنه لم يحاول أي زعيم عربي على مدى 30 عاماً زيارة مقبرة جماعية تضم 600 من أصل 1700 فلسطيني".