دعا الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله الى المزيد من الدرس والتقييم للتجربة البطولية التي قدمتها المقاومة في غزة، متوجها بالتبريك والتهنئة بهذا النصر.
واعتبر سماحته في الكلمة العاشورائية التي ألقاها في الليلة التاسعة من شهر محرم الحرام في مجمع سيد الشهداء (ع) في بيروت أن ما حصل في غزة درس لكل من يبحث عن استراتيجية دفاع وطني، مؤكدا أن حركات المقاومة أوجدت توازن رعب واستعادت قدرتها على المواجهة وفرض الشروط.
وقال السيد نصر الله متوجها الى قادة العدو: إذا فشلتم في مواجهة غزة، فكيف لكم أن تواجهوا أطرافا أخرى ظروفها أفضل من ظروف غزة؟ مشيرا إلى أن من انجازات المقاومة أن العدو بات يستهيب غزة ويحسب لها الحساب والحرب على غزة لم تعد نزهة وغزة لم تعد مكسر عصا.
وأكد سماحته أن انتصار غزة الأكبر هو أنها فرضت شروطها على العدو ولم تستجب لشروطه، وأن اسرائيل باتت مضطرة الى أن تلجأ الى تفاهمات مع حركات المقاومة لأنها باتت تشعر بأن قواها العسكرية عاجزة عن حمايتها. وأضاف: إن حركات المقاومة لم تعد تتوقف على قيادات معينة مهما كانت هذه القيادات على قدر من الأهمية والتجربة أثبتت ذلك.
فيما يلي النص الكامل لخطاب الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله في الليلة العاشورائية التاسعة (الجمعة 23-11-2012) في مجمع سيد الشهداء (ع) في الرويس:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا خاتم النبيين أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبهم الاخيار المنتجبين، وعلى جميع الانبياء والمرسلين.
إخواني وأخواتي السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
سأقسم الوقت الى قسمين، أتكلم قليلا عن خاتمة ونهاية المواجهة البطولية التي حصلت في قطاع غزة، والقسم الثاني هو موضوع هذه الليلة ان شاء الله بالاختصار الممكن.
نستطيع بكل وضوح ويقين وثقة، أن نقول الآن مجددا انتصر الدم على السيف. نحن أمام انتصار حقيقي. الآن لا نريد أن نتكلم لا شعارات ولا عواطف ولا مشاعر، وإنما لو أردنا ان نقيّم وأن ندقق وأن ندرس أبعاد وتفاصيل ودقائق ما حصل يمكننا أن نقول بكل وضوح وبكل يقين إننا أمام انتصار جديد من زمن الانتصارات.
طبعا في البداية يجب أن نتوجه إلى المقاومة الفلسطينية بالتبريك الكبير على هذا الإنجاز العظيم لقياداتها ورجالاتها وشعبها وأهلها في غزة، إلى كل حركاتها وفصائلها وكتائبها وسراياها وإلى كل شعب فلسطين في داخل فلسطين المحتلة وخارج فلسطين المحتلة، إلى كل شرفاء هذه الأمة وكل شرفاء العالم الذين يؤمنون بفلسطين، وتمثّل فلسطين والمقدسات بالنسبة إليهم قضية مركزية واهتماماً كبيراً، ويتطلعون إلى اليوم الذي سيتم فيه تحريرها وتطهيرها من دنس الصهاينة المحتلين.
هذا تبريك للجميع لأن أهل المقاومة هم أعلنوا بأنفسهم أن هذا الانتصار هو لغزة، لشعب فلسطين، للمقاومة وللأمة كلها.
نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، بطلب الرحمة لهؤلاء الشهداء، والشفاء والعافية لكل الجرحى، والصبر والسلوان لعائلاتهم، وأن يمكّن الله تعالى إخواننا وأحبتنا في قطاع غزة من إعادة بناء ما هدم ومواصلة طريق المقاومة التي سلكوها منذ سنوات طويلة.
لكل من يناقش أو يتأمل، تعلمون أن في العالم العربي يوجد ناس ليسوا حاضرين ليسلّموا بانتصارات حركات المقاومة، يعني اذا كان هناك انتصار واضح وبيّن وجلي يظلون يناقشون.
لكن أنا، انطلاقا من التجربة والوضع الاعلامي، أستطيع أن أقول لكم يكفي أن تنظروا الى وجوه الثلاثي نتنياهو وباراك وليبرمان عندما أقاموا مؤتمراً صحفياً وأعلنوا عن اتفاق الهدنة انظروا لوجوههم، هل هذه وجوه قوم منتصرين أم وجوه كالحة مستاءة فاشلة مهزومة، إننا نتكلم بالشكل هنا، ملاحظة الإعلام، منظر واضح يذكّر بأشكال أولمرت وليفني وبيرتس وآخرين بعد انتهاء حرب تموز.
لو أتينا للأهداف المعلنة للعملية أو للحرب الاخيرة على غزة. ذكرت بالليلة الاولى أن الاسرائيلي يستفيد من التجارب السابقة لذلك لم يضع أهدافا عالية، لم يأتِ ويقول أنا أريد أن أسحق المقاومة في قطاع غزة الآن، يعني في هذه الحرب الاخيرة، لم يرفع السقف. لم يقل أنا أريد أن أدمر سلطة وحكومة الرئيس اسماعيل هنية، لم يقل أنا سأعيد احتلال قطاع غزة وأنهي المقاومة وإرادة المقاومة فيه نهائيا، أبداً لم يطرح هذه العناوين، ذهب نحو أهداف أقل. بظنّه أنه يستطيع أن يحقق هذه الاهداف، وأنه ببساطة بعد انتهاء العملية يستطيع أن يعقد مؤتمراً صحفياً ويقول: لقد انتصرنا لأن أهداف العملية المعلنة قد أنجزت، لكن حتى ذلك لم يحصل.
إذا عدنا إلى الأهداف المعلنة للعملية، سنقول إن هذه الاهداف تحققت أم لم تتحقق، هذا الذي يحكم على الفشل والهزيمة والنصر. ليست المقاومة هي التي شنت حرباً على إسرائيل لنقول هل حققت المقاومة أهدافها من خلال الحرب التي شنتها وبالتالي نحكي عن نصر وهزيمة ونجاح وفشل، يجب أن نأخذ الجانب الاسرائيلي، هو الذي شنّ الحرب على غزة، وبالتالي إذا كانت الأهداف التي أعلنها تحققت يكون قد نجح، وإن لم تتحقق يكون قد فشل وهزم. المقاومة كان همها الحقيقي هو إفشال أهداف العدو وذهبت أبعد من ذلك بطرح شروطها.
عندما نأتي الى أهداف العدو التي هو تكلم عنها فهي:
أولاً تدمير أو تصفية البنية القيادية للمقاومة في قطاع غزة، هذا الهدف تحقق؟ لم يتحقق.
صحيح، شهادة القائد الشهيد أحمد الجعبري كانت خسارة كبيرة ولكن بعدها قد بدأت الحرب وعلينا أن نحسب من الحرب التي بدأت ماذا أصاب البنية القيادية لحركات المقاومة؟ وهذا على كل حال يؤكد، يعني هذه المقاومة التي فقدت شهيداً قائداً بحجم هذا الشهيد استطاعت أن تقاتل بكفاءة، وأنا أحب أن أؤكد أن حركات المقاومة في فلسطين في لبنان في المنطقة لم تعد تتوقف على أشخاص أو على قادة أو على قيادات مهما كان هؤلاء القادة كباراً وعظماء ومؤثرين. تجربة حركات المقاومة الآن تعطي هذه النتيجة.
الهدف الثاني: قال إنه يريد أن يدمر المنظومة الصاروخية للمقاومة في غزة، هل استطاع أن يحقق هذا الهدف؟
كلا، بدليل أن المقاومة استطاعت على مدى أيام القتال أن تطلق يومياً ما معدله مئتا صاروخ وبعضها وصل إلى تل أبيب وإلى القدس.
هذا مهم جدا، أن قطاع غزة هذه المساحة الصغيرة والمكشوفة المبسوطة أمام عين العدو من البحر، من البر، من الجو، وتشن عليها الغارات، ويتمكن المقاومون من اطلاق مئتي صاروخ يومياً، والذين يعرفون بالعسكر يعلمون أن هذا الشيء كبير وعظيم.
إذاً، المنظومة الصاروخية بقيت بنسبة كبيرة، وقدرة المقاومة على تشغيل المنظومة الصاروخية أيضا أثبتت استمرارها وبقاءها وكفائتها.
ثالثا: تكلم عن هدف استعادة الردع، يعني إخافة أهل غزة ومقاومة غزة وبالتالي يستطيع العدو الاسرائيلي لاحقاً أن يغتال، أن يقتل، أن يستمر بحصاره، أن يفعل ما يشاء دون أن يلقى ردود فعل من غزة. هذا يعني استعادة الردع. هل هذا تحقق أيضاً؟ بالعكس، إن قوة الردع التي كانت قائمة قبل العدوان على غزة أصبحت أضعف، تراجعت، تأذت، تضررت بدرجة كبيرة، باعتراف الاسرائيليين بأنفسهم.
انظروا مثلاً: هو أراد أن يدعي من خلال العملية أن يأمن سكان المستوطنات الموجودين في محيط قطاع غزة أو بعمق أربعين كلم. ماذا كانت النتيجة؟ أن يفقد أهل تل أبيب وأهل القدس وكل من يعيش في شعاع سبعين إلى ثمانين كلم من غزة الأمن، فتفتح الملاجئ، تتعطل التجارة والمصانع والأعمال التجارية والسياحة
اليوم، بكل بساطة، ثقة المقاومة بنفسها، ثقة أهل غزة بالمقاومة، ثقة الشعب الفلسطيني بالمقاومة وقدرة المقاومة على الدفاع، على الردع، على صنع الانتصار، على فرض الشروط، أصبح أعلى وأكبر مما كان عليه قبل العملية، وبالمقابل ثقة مجتمع العدو بحكومة العدو وبجيشه تدنت عما كانت عليه أيضا قبل العملية.
هذه المواجهة طبعاً تحتاج إلى وقت طويل لنتحدث عن عبرها، عن دروسها، عن نتائجها، عن إنجازاتها، سواء على مستوى الصراع العسكري والميداني، أو على المستوى السياسي، أو على المستوى المعنوي، أو على المستوى الفلسطيني وتأثيراتها على الشارع الفلسطيني وتلاحم القوى الفلسطينية التي كانت على خصام شديد. إنجازات على المستوى العربي على مستوى المنطقة.
ولكن أنا بمقدار الوقت المتاح هذه الليلة أود أن أتحدث قليلا عن بعض الانجازات المرتبطة بالجانب العسكري والمعنوي.
أنظروا يا إخواني وأخواتي: هذه المواجهة أو هذه الحرب أثبتت من جديد مقولة قيلت في السنوات الماضية، أن سلاح الجو الإسرائيلي لم يعد قادراً على حسم معركة من الجو، هذا قيل بحرب تموز 1993 وبنيسان 1996 في لبنان، في تموز 2006 في لبنان، بقطاع غزة 2008/2009 والآن من جديد، لكن دعنا نسجل الآن هناك تجربة. دعنا نقول هذه التجربة الخامسة بين المقاومة والعدو الإسرائيلي.. تقول هذه التجربة إن سلاح الجو الإسرائيلي مهما بلغ من القوة والقدرة، وتملّك من التكنولوجيا والتقنيات العالية هو عاجز عن حسم المعركة وفرض الشروط السياسية أو الميدانية على حركات المقاومة.
ثانياً، ظهر من خلال هذه التجربة مدى تهيّب حكومة العدو وقادة العدو من اللجوء إلى العملية البرية، إلى المواجهة الميدانية، وكان واضحاً، وأنا تحدثت إليكم في تلك الليلة أن هذه هي حرب نفسية، كان واضحاً أصلاً عندما يكبّر الحجر يعني أنه لا يريد أن يرمي به.
عندما أعلنوا عن استدعاء 75 ألف جندي احتياط كان واضحاً أن الهدف من هذا الاستدعاء هو الحرب النفسية، وأنا أؤكد لكم أن قادة العدو كانوا خائفين ومرعوبين من اللجوء إلى خيار المواجهة البرية، وهذا الأمر قائم ومستمر. وهم خابوا على كل حال، تجربة مواجهات برية مع حركات المقاومة على مدى ثلاثين عاماً، وآخرها في حرب تموز 2006 وأيضاً في غزة 2008 – 2009، وكانت خسائرهم كبيرة ولم يستطيعوا أن يحققوا أي نتيجة.
ثالثاً: من النتائج، أن إسرائيل هذه التي كانت دائماً تقاتل وتنتصر وتُرعب وتهزم وتفرض شروطها، أصبحت في مواجهة حركات المقاومة في وضع تشعر بأنه لا التغطية الدولية تشكل لها حماية وضمانة حقيقية ولا حتى قواها المسلحة، ولذلك أصبحت مضطرة أن تلجأ إلى تفاهمات مع من؟ مع حركات المقاومة التي تصفها هي بأنها حركات إرهابية، بدءاً من تفاهم تموز 93 إلى تفاهم نيسان 96، إلى تفاهمات التهدئة في قطاع غزة المتتالية، إلى التفاهم الأخير. وهذا طبعاً مؤشر مهم وكبير جداً.
أنظروا أيها الأخوة والأخوات: في بداية المعركة قال قادة العدو إن هذه الحرب لن تنتهي قبل أن تتوسل غزة. ماذا كانت النتيجة؟! توسلت إسرائيل ولم تتوسل غزة. اعتبرت هذه المعركة من لحظاتها الأولى أنها معركة عض أصابع، يخسر فيها من يصرخ أولاً، وصرخ فيها أولاً الإسرائيلي. بل وقفت غزة لتفرض شروطها، لا لتقبل تهدئة أو وقف إطلاق نار كيفما كان، ولذلك النقطة التالية هي أن انتصار المقاومة في غزة لم يتحقق فقط على مستوى تعطيل وإفشال أهداف العدوان، بل تحقق بشكل متقدم وهو أن المقاومة فرضت شروطها في اتفاق التهدئة ورفضت شروط العدو.
عندما نرجع إلى النص المعلن سوف نجد بعض شروط المقاومة التي كانت تطالب بها دائماً. على سبيل المثال: فتح المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع وعدم تقييد حركة السكان أو استهدافهم في المناطق الحدودية والتعامل مع إجراءات تنفيذ ذلك بعد 24 ساعة من دخول الاتفاق حيز التنفيذ، بمعزل أن الإسرائيلي سينفذ هذا البند أو لا، ذكر هذا البند وموافقة الإسرائيلي عليه هي إنجاز للمقاومة.
في المقابل كان دائماً من شروط الإسرائيليين أن تتعهد المقاومة في غزة بوقف تهريب السلاح، وشيء من هذا لم يذكر في اتفاق التهدئة.
إذاً المقاومة هنا، انتصارها الأول أنها عطّلت وأفشلت أهداف العدو، وانتصارها الأعلى أنها لم تستجب لشروط العدو، وانتصارها الأعلى والأعلى هي أنها فرضت شروطها على هذا العدو. وهذا درس كبير وعظيم.
من إنجازات هذه المواجهة، وكما قال إخواننا من قيادات المقاومة الفلسطينية، أن قطاع غزة لم يعد مكسر عصا، ولم يعد نقطة ضعف عندما يتحدثون عن محور المقاومة.
الإسرائيلي للوهلة الأولى كان يستضعف غزة، ولكنه بعد هذه المواجهة بات يتهيّب غزة ويخاف غزة ويحسب لغزة كل حساب، ولذلك نعم يصح القول: إن من إنجازات هذه المواجهة أن قطاع غزة لم يعد مكسر عصا، وإن الحرب على غزة لم تعد نزهة، وإن الحرب البرية على غزة أصبحت بعيدة جداً وجداً.
ومن إنجازات هذه المواجهة، أن نفهم جميعاً، وأن تفهم شعوب المنطقة، وأن يفهم العدو النتيجة التالية: إذا كنتم يا قادة إسرائيل المحتلة، أيها القادة السياسيون والعسكريون، إذا عجزتم عن مواجهة قطاع غزة المحاصرة، غزة المظلومة، غزة التي تهرّب سلاحها وصواريخها بمعاناة شديدة، غزة المكشوفة بالكامل، إذا عجزتم في مواجهة غزة وهُزمتم وفشلتم فكيف إذا أردتم أن تواجهوا غير غزة ممن يملك ظروفاً أفضل على أكثر من صعيد. هذا درس هذه عبرة.
وآخر ملاحظة أو إنجاز أو درس أريد أن أقوله في هذا المختصر هو: هذه التجربة أيضاً تؤكد من جديد أنه في مواجهة التفوق العسكري الإسرائيلي، القدرات المادية والتسليحية والعددية العسكرية الكبيرة إسرائيلياً، الذي يستطيع أن يصنع التوازن هو حركات المقاومة الشعبية التي تعتمد تسليحاً مختلفاً، توزيعاً لسلاحها ومخازنها وصواريخها مختلفاً، تكتيكاً مختلفاً لمنصات الصواريخ واستخدام الصواريخ والقدرات النارية والمواجهة حتى في المجال البري.
حركات المقاومة هي التي استطاعت أن تحدث هذا التوازن، توازن الرعب، توازن الردع، وبالتالي أن تستعيد في هذه الجبهة المعنويات والثقة والاحساس بالقدرة على المواجهة وفرض الشروط وإذلال العدو. هذا هو الدرس. هذه تجربة جديدة تضاف إلى كل التجارب السابقة، إلى كل من يبحث عن استراتيجية دفاع وطني في أي بلد من البلدان.
طبعاً هناك انجازات كبيرة وتقييمات يجب أن تحصل على أكثر من صعيد، فلسطيني وعربي ودولي، ولكن أكتفي هذه الليلة بهذا المقدار، مع تجديد التبريك بهذا النصر العظيم لأهلنا وأحبائنا في قطاع غزة ولشعبنا الفلسطيني العزيز وأمتنا الكريمة، والدعوة إلى مزيد من الدرس والتقييم واستخلاص العبر من هذه التجربة الجديدة والبطولية.