في ما يبدو، ينتشر عملاء إسرائيل في طول البلاد وعرضها. وما ظهر حتى اليوم ليس سوى بضعة أسطر من قائمة طويلة تضم أسماء المشتبه فيهم الموجودة لدى المعنيين بمكافحة التجسس الإسرائيلي. كيف يحوز كل من هؤلاء لقب «جاسوس»؟
أظهرت الشبكات الإسرائيلية التي اكتشفتها الأجهزة الأمنية اللبنانية، منذ توقيف علي الجراح في أيلول الفائت، أن الاستخبارات الإسرائيلية كانت قد جنّدت معظم هؤلاء الموقوفين عبر الشريط الحدودي المحتل، أو من خلال أشخاص كانوا يعيشون دخل الشريط، أو عبر عملاء كانوا يثقون بهم. ومن خلال الاطّلاع على التحقيقات مع بعض الموقوفين، ومن مقابلة عدد من الأمنيين الذين عملوا، أو لا يزالون يعملون في مجال مكافحة التجسس، يمكن تكوين خلاصة للأسلوب الذي يتّبعه الإسرائيليون لتجنيد عملائهم. وتبرز في الأسلوب الإسرائيلي محورية الشريط الحدودي الذي كان لا يزال محتلاً حتى 9 سنوات خلت، والذي كان منطقة خاضعة كلياً لنفوذ الاستخبارات الإسرائيلية.
■ كيف يجنّد الإسرائيليون عملاءهم؟
كان في كل واحدة من بلدات الشريط الحدودي المحتل قبل عام 2000، عميل يوصف بـ«المحرك الأمني»، يرتبط بضابط في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) وبالتحديد بوحدة المصادر البشرية، أو ما يعرف بجهاز الـ«504» المكلف جمع معلومات لحساب الجيش الإسرائيلي عبر تجنيد شبكات للتجسس. ينشئ المحرك الأمني شبكة من العملاء المحليين الذين يديرهم داخل البلدة، وفق برنامج يشرف عليه الضابط الإسرائيلي. ويكون لكل عميل رقم تسلسلي يستخدم في المراسلات بدلاً من اسمه.
إضافة إلى ذلك، كان يعمل في كل واحدة من القرى مسؤول في الجهاز الأمني لجيش لحد، يرتبط بجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك). وكان هؤلاء يجمعون معلومات غير مرتبطة مباشرة بالنشاط العسكري الإسرائيلي، أو العمل العسكري والأمني المقاوم. وكان من ضمن مهماتهم جمع معلومات عن تهريب المخدرات إلى داخل إسرائيل. لكن تنسيقاً وتبادلاً للمعلومات كانا يجريان بين الجهازين، على مستوى الضباط الإسرائيليين الذين كانت لهم مراكز داخل الأراضي الإسرائيلية، مباشرة قرب الشريط الفاصل بين الأراضي اللبنانية والفلسطينية، بالتحديد عند البوابات المؤدية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو ما أطلق عليه الإسرائيليون تسمية «الجدار الطيّب».
وكان جهاز أمن العملاء ينفذ إجراءات روتينية مع أهالي الشريط الحدودي الذين يترددون إلى خارجه، وخاصة الذين يترددون إلى أماكن ذات أهمية بالنسبة إلى العمل العسكري والأمني الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال، كان المترددون إلى الضاحية الجنوبية وإلى مناطق انتشار المقاومة يخضعون لتحقيق لدى الجهاز المذكور في كل مرة يعودون فيها من الأراضي المحررة. ويشمل التحقيق الأماكن التي زاروها والأشخاص الذين التقوا بهم والنشاطات التي قاموا بها والأحاديث التي دارت على مسمعهم وتلك التي شاركوا فيها. وكانت هذه المعلومات ترفع إلى الضباط الإسرائيليين لاستثمارها في تنمية بنك الأهداف الموجود لديهم، وفي مقاطعة معلومات موجودة في حوزتهم، فضلاً عن جمع معلومات عن مرشحين للتجنيد.
وبناءً على معرفة المحرك الأمني بالأرض، كان يقترح على الضابط الإسرائيلي أشخاصاً يرى أنّ بالإمكان تجنيدهم. وكان المحرك الأمني يرفق اقتراحه بملف يحوي كل المعلومات الموجودة في حوزته عن المقترح للتجنيد، بما فيها معلومات «تافهة» عن تحركاته والأماكن التي يزورها عند خروجه من الشريط الحدودي، والأشخاص الذين يلتقي بهم. وفضلاً عن ذلك، قد يحتوي الملف على معلومات تساعد الضابط الإسرائيلي على تجنيد الهدف، كبعض الأخبار التي تمكّنه من إيهام المقترح للتجنيد بأن الإسرائيليين يعرفون حياته بتفاصيلها الدقيقة، مثل وصف منزله خارج الشريط الحدودي من الداخل، أو أن يعيدوا أمامه كلاماً كان قد قاله في مجلس ما في المناطق المحررة. وبعد إجراء دراسة على المقترح وجمع أكبر قدر من المعلومات عنه، كان الضابط الإسرائيلي في جهاز الـ«504» يكلف المحرك الأمني، إما بطرح العمل لحساب الإسرائيليين على المقترح للتجنيد، وإما بنقله إلى داخل الأراضي الإسرائيلية. وكانت التوجيهات الإسرائيلية المعطاة للمحركين الأمنيين تقضي بالحفاظ على أقصى درجات السرية أثناء مفاتحة المقترح، والحرص على عدم كشف عملية نقله إلى المركز الأمني الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية.
طريق آخر يعتمده الإسرائيليون لتجنيد عملائهم، وخاصة من لم يكونوا من أهل الشريط الحدودي المحتل، وهو الأسلوب الذي اعتمد لتجنيد أشخاص بعد عام 2000. ففي هذه الحالة، يؤدي بعض العملاء الموثوق بهم من الإسرائيليين دور المحرك الأمني، لناحية ترشيح أشخاص للتجنيد. وأظهرت التوقيفات الأخيرة اعتماد الإسرائيليين على القرابة العائلية بين العميل والمرشّح (الأخوان الجراح، العلم وزوجته وابن شقيقته، الأخوان شهاب، الأخوان ياسين، السحمراني الذي جنّدته شقيقته، ناصر نادر الذي جُند عبر شقيقة زوجته الثانية). بعد ذلك، يطلب الإسرائيليون من عميلهم نقل المرشح للتجنيد إلى خارج لبنان، حيث يلتقيه ضباط إسرائيليون قد ينقلونه إلى فلسطين المحتلة. وفي بعض الحالات، يتصل الإسرائيليون بالمقترح للتجنيد مباشرة، لكن من دون الكشف عن هويتهم الحقيقية، ويدبرون خدعة ما (التجارة مثلاً) توفّر انتقاله إلى الخارج، حيث تجري مصارحته ومحاولة تجنيده.
وعندما يلتقي الضابط الإسرائيلي الذي يتحدّث اللغة العربية بطلاقة (معظم العملاء يتحدّثون في اعترافاتهم عن لكنة فلسطينية) المقترح للتجنيد، عادة ما يظهر له لطفاً فائقاً، ويسأله عن أحواله وعن عائلته وعن تحركاته، لكن ليس بالصيغة التحقيقية. ويستخدم الإسرائيليون الأساليب المتاحة أمامهم لإقناع المقترح بالعمل معهم، فيتحدثون عن أن عملهم يهدف إلى الحفاظ على أمن المناطق الحدودية، ويعرضون مبالغ مالية ضخمة ويعدونه بالحماية وبتأمين مستقبله ومستقبل أبنائه وحرصهم على عدم تعريضه للخطر خلال العمل معهم. ويركّز الإسرائيليون على بعض نقاط الضعف المتعلقة بالعميل، ومنها وضعه المادي أو خياراته السياسية (بغضه للمقاومة أو لسوريا مثلاً).
فضلاً عن ذلك، قد يرفق الإسرائيليون كلامهم بتهديد مبطّن إذا ما شعروا بأن المقترح للتجنيد لن يتجاوب مع طروحاتهم، كتهديده بمصير سيئ لعائلته (قبل التحرير) أو بمنعه من معاودة الدخول إلى الشريط، حتى الوصول إلى تهديده بالسجن في بعض الحالات. وعند موافقة الشخص المستهدف على العمل مع الإسرائيليين، يشددون على حرصهم عليه، طالبين منه عدم إخبار الوسيط (المحرك الأمني أو العميل) بما جرى معه. وفي العادة، لا يكلف الإسرائيليون المتعامل معهم أي مهمات بعد اللقاء الأول، ويطلبون منه انتظار اتصالهم به. في المرحلة الأولى، يخضع المتعامل لاختبارات شتى، للتثبت من صدقيته، ويبدأ الإسرائيليون بإعطاء عميلهم المال من دون تكليفه أموراً ذات أهمية، بل يسألونه عن أمور معروفة، ويكلفونه مهمات يسهل عليه تنفيذها، ويسهل عليهم في الوقت ذاته مقاطعة المعلومات الناتجة منها عبر عملاء آخرين.
وفي حال الشك في أنه يعمل في الوقت عينه لحساب جهة أخرى، يُخضع الإسرائيليون عميلهم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة لاختبار كشف الكذب بواسطة الأجهزة التقنية المخصصة لذلك. وبعد الثقة به، يتلقى (داخل الأراضي الفلسطينية) تدريبات على جمع المعلومات واستخدام أجهزة اتصال يزوّدونه بها، وعلى التملّص من التعقّب والمراقبة، وعلى إجراءات الحماية الشخصية. وعادة ما يعطي الإسرائيليون عملاءهم مبالغ مالية كبيرة خلال الفترة الأولى من عملهم (تصل إلى أكثر من 15 ألف دولار). لكن هذه المبالغ تتناقص مع الوقت، إذ يصبح العميل مديناً لمشغليه الذين قد يبتزونه إذا خفّت إنتاجيته أو شكّوا بنيّته وقف العمل معه، ويهددونه بكشف أمره في حال توقفه عن العمل لحسابهم. ويشير مسؤول أمني إلى أن الإسرائيليين لا يدفعون لعملائهم مرتّبات شهرية، بل يعطونهم المعلومات مقابل الخدمات التي يؤدونها.
وعادة ما يحرص الإسرائيليون على اللقاء بعميلهم دورياً، للاطلاع على الجديد الذي طرأ على أوضاعه، ولتدريبه على أجهزة اتصال ومراقبة جديدة، ولإخضاعه للاختبارات في حال شكهم به. واللافت أن الإسرائيليين، بحسب مسؤول أمني مواكب للعمل التجسسي، لا يثقون بأمنهم خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، فينقلون عملاءهم إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكان الإسرائيليون يصرّون على العميل الموقوف الرقيب في قوى الأمن الداخلي هيثم السحمراني بضرورة انتقاله إلى خارج لبنان، لكنه كان يخشى فعل ذلك (التقى بهم مرة واحدة عام 2004 بعدما سافر إلى تركيا) فكان يقول لهم إن المؤسسة التي يعمل فيها تمنعه من السفر.
وكانت لقاءات المشغلين بعملائهم، خلال السنوات القليلة التي سبقت عام 2000، تجري من خلال انتقال العملاء من أبناء الشريط الحدودي إليه، ومنه إلى فلسطين المحتلة. أما من ليس في مقدوره فعل ذلك، فينتقل إلى خارج لبنان بطريقة شرعية، وخاصة إلى دول أوروبية وقبرص وتركيا، ومنها إلى فلسطين المحتلة، بعد تسليمه (في معظم الأحيان) جواز سفر إسرائيلياً يحمل صورته الشمسية. وبعد تحرير الجنوب عام 2000، بات بعض العملاء ينتقلون إلى داخل الأراضي المحتلة عبر الشريط الفاصل بين لبنان وفلسطين، وهي الحركة التي استمرت حتى ما بعد حرب تموز 2006 مع العميل محمد عوض. واللافت في أسلوب انتقال العملاء إلى فلسطين هو ما ذكره العميل محمود رافع للمحققين عن أن الاستخبارات الإسرائيلية أرسلت قوة كومندوس إلى شاطئ الجية ونقلته مع خطاب على متن زورق صغير إلى عرض البحر حيث كان زورق أكبر في الانتظار.
وذكر مسؤول أمني أن معظم الأحاديث التي يقول العملاء الموقوفون إنها دارت مع مشغليهم تتمحور حول العمل وأوضاعهم الأمنية والمالية والاجتماعية، فضلاً عن التدريبات. إلا أن بعض العملاء تحدثوا عن رحلات ترفيهية نظمها لهم مشغلوهم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، منها على سبيل المثال الرحلة التي أخذ فيها العميل محمد عوض إلى مدينة طبريا، لكونها المدينة التي تهجّر منها أهله عام 1948.
ويعمد الإسرائيليون إلى تسليم عملائهم الأموال وأجهزة الاتصال باستخدام البريد الميت، أي المخابئ التي يضع أحد العملاء أموالاً وأغراضاً فيها ثم يغادر ليأتي عميل آخر في وقت لاحق لتسلم المحتوى، بعدما يتصل به مشغلوه ليصفوا له المكان بالتحديد. وبحسب اعترافات الموقوفين، تتوزع أماكن البريد الميت في مختلف المناطق اللبنانية، وأبرزها زندوقة قرب بيت مري وقرنايل ورأس الحرف وزبّوغا ورويسة البلوط وكفرقطرة، ومعاصر الشوف وجسر القاضي والغابون والجية والرميلة، وبحبوش ومتريت (في الكورة) وعمّيق في البقاع.
وكانت مهمات العميلين الموقوفين روبير كفوري ومحمد عوض تنحصر تقريباً بنقل محتوى البريد من أماكن إلى أخرى، وخاصة العلب المقفلة التي كان ينقلها عوض إلى داخل مخيم عين الحلوة، ويضعها في أماكن ليتسلمها أشخاص لا يعرفهم.
الإيهام بالمعرفة
يوهم المشغّلون الإسرائيليون عملاءهم بأنهم يعرفون تفاصيل حياتهم وكل ما يجري حولهم. لكن أكثر من حادثة تظهر أن هذا الأمر ليس دقيقاً، حتى في ما يخص العمل الأمني للعميل وأمنه الشخصي. فالإسرائيليون كانوا قد طلبوا من محمود رافع ركن السيارة التي ستستخدم لاغتيال الأخوين المجذوب (صيدا، أيار 2006) في أحد المواقف في غاليري سمعان، لكنه أخذها إلى منزله في حاصبيا لأنه وجد بدل إيجار الموقف مرتفعاً. وبقيت السيارة في حاصبيا مدة شهرين. واستخدمها داخل البلدة، علماً بأنه كان قد أبلغ مشغليه بأنه ركنها في موقف في شارع الحمرا ببيروت.
أما العميد المتقاعد أديب العلم فكان قد أخبر مشغليه بداية العام الجاري أنه يشعر بأن جهة ما تعمل على مراقبته. وبعد أيام قليلة، أجابه الإسرائيليون بالقول إنهم أجروا دراسة لوضعه الأمني بيّنت عدم وجود خطر عليه. وقبل أيام من توقيف ناصر نادر أكد له مشغلوه أنه بأمان.
عارض استوكهولم
تنشأ بين بعض العملاء ومشغليهم علاقة صداقة (من طرف العملاء على الأقل). ويشير أحد الضباط اللبنانيين إلى أن العملاء يصابون بما يعرف في علم الجريمة بـ«عارض استوكهولم» وهو الذي يقوم بين «الخاطف والمخطوف»، إذ يبدو أن العملاء صاروا أسرى مشغليهم. وكان الإسرائيليون يتحدثون في رسائلهم مع أديب العلم (الصورة) كأنهم أصدقاء له، ويوجهون تحياتهم إلى زوجته.