ألقى آية الله السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
"تدخل الحملة الصهيونية ضد الفلسطينيين مرحلة جديدة في ظل الاستهداف المباشر لفلسطينيي العام 1948، وخصوصا في مدينة عكا، التي أحرق المستوطنون الصهاينة العديد من منازل العرب فيها، بتغطية وتواطؤ من سلطات العدو التي تريد للمستوطنين أن يقودوا الهجمة الجديدة داخل عكا بعدما بدأوها في الضفة.ويبدو أن الهدف الأساس لهذه الحملة هو ترحيل العرب من قراهم ومدنهم لإقامة "الدولة اليهودية النقية"، كما وعد الرئيس الأميركي "جورج بوش"، الذي لا يزال يمارس دور الحاخام الأكبر في تأمين الغطاء للارهاب الإسرائيلي المتواصل ضد الفلسطينيين، والإفساح في المجال لاضطهاد عرقي عنصري حاقد ضد العرب في القدس وبقية الأرض الفلسطينية".
اضاف:" ومن اللافت أننا لم نسمع أصواتا عربية أو فلسطينية في دائرة السلطة لإثارة المسألة على مستوى دولي، ولم نجد أي اهتمام من اللجنة الرباعية الدولية التي تستمر في خداعها بالحديث عن خريطة الطريق، فيما تراوح المصالحة الفلسطينية مكانها ولا تتقدم خطواتها العملية، رغم كل حالات الضغط والحصار والإرهاب التي يمارسها العدو ضد الفلسطينيين. ونحن في الوقت الذي نتمنى أن تحظى الجهود المصرية في مسألة المصالحة بنجاح يعيد الوحدة الوطنية الفلسطينية، ويؤسس لحكومة ائتلافية تخدم شعبها، وتعيد حركة التحرير إلى موقعها الطبيعي الذي يواجه الاحتلال من موقع واحد، نريد للجامعة العربية أن تتحرك لحماية الفلسطينيين وتسهيل المصالحة الفلسطينية الداخلية، وأن تمارس دورها في إثارة ما يتعرضون له من إرهاب وضغط أمام المحافل الدولية، وخصوصا الاتحاد الأوروبي".
وتابع:"نريد للمقاومة الفلسطينية أن تبقى في حال جهوزية تامة لمواجهة العدو، في ظل الأوضاع المعقدة التي تحيط بقضيتهم، وفي ظل استمرار الدعم الأميركي الأعمى للكيان الصهيوني، والذي نخشى أن يتزايد مع الإدارة الجديدة بعدما استمعنا إلى المرشحين الجمهوري والديموقراطي، وهما يتحدثان عن إسرائيل كما لو كانت الدولة التي تخضع لها أميركا، بينما يدور الحديث عن المقاومة بأنها حركة إرهاب لا بد من محاصرة شعبها والضغط على فصائلها والتحرك الوحشي الأمني والاقتصادي والسياسي ضدها".
واوضح "إننا لا نرى تحريرا لفلسطين من الاحتلال اليهودي المتحالف مع الخط الأميركي بعيدا من الانتفاضة في خطتها التحريرية التي تربك كيان العدو وتمنعه من الاستقرار، وخصوصا إذا تضافرت جهودها إلى جهود الأحرار في العالم العربي ـ الإسلامي ضد السياسة الأميركية والإسرائيلية".
وقال:"لقد انعقد في الدوحة قبل أيام مؤتمر للقدس دعا إلى كسر الحصار عن فلسطين، ومواجهة آلة التدمير الصهيونية وما تقوم به من تجريف تحت المسجد الأقصى، مع الإصرار على أن تتراجع الخلافات المذهبية بين السنة والشيعة إلى مرتبة ثانوية أمام قضية القدس.. كما دعا الأمة العربية والإسلامية وحكامها إلى تحدي الخوف وكسر الحصار الظالم على فلسطين وعلى قطاع غزة.. وإننا نلاحظ أن مثل هذه المؤتمرات لا تتحرك بخطوة واحدة نحو القضية الفلسطينية في أبعادها السياسية على المستوى الإقليمي والدولي، فما زال الغرب، وفي مقدمه أميركا، يخطط لتهويد فلسطين بالتأكيد على الدولة اليهودية العنصرية التي تجتاح أكثر أراضيها من دون أي ضغط عربي وإسلامي فاعل، لأن المسؤولين في واقع الأمة اكتفوا بالتصريحات والاحتفالات والقرارات الاستهلاكية حفاظا على ماء الوجه أمام شعوبهم، وخضوعا للسياسة الأميركية التي تضغط على أوضاعهم السياسية، حتى تضيع البقية الباقية من فلسطين، وتتحول مسألة القدس ـ المسجد والمدينة والمنطقة ـ إلى انهيارات متلاحقة تموت فيها القضية وتضيع كما ضاعت الأندلس، ولا سيما أن بعض المشرفين على مؤتمر القدس ما زالوا يشغلون الأمة بالاتهامات المثيرة في غزو مذهب لمذهب، بدلا من التركيز على غزو إسرائيل لفلسطين، وغزو الاستكبار الغربي للعالم الإسلامي. فالعصبية المذهبية عند بعض الرموز ترقى إلى مستوى أعلى من الالتزام بالوحدة والسلامة الإسلامية، لينسى المسلمون، بفعل هذه الإثارة العصبية التي تتحرك بالجدل حول المذهب، كل قضايا الواقع المعاصر في حركة التحديات الخطيرة ضد كل الأوضاع الإسلامية".
ورأى "إن الأوضاع الأمنية لا تزال تسيطر بأخطارها الكبرى على المنطقة الإسلامية في أفغانستان وباكستان، حيث يسقط الكثير من الضحايا من المدنيين الأبرياء بفعل القصف الأميركي والأطلسي الذي يصيب المدنيين والأطفال في بيوتهم الآمنة، ثم يبادرون إلى تبرير ذلك بالحديث عن الخطأ الذي حصل، أو بالأكاذيب الإخبارية، بأنهم كانوا يقصفون الإرهابيين".
اضاف:" وهكذا تمتد الكارثة إلى العراق المحتل الذي يسقط فيه في كل يوم المزيد من العراقيين الأبرياء، بالتفجيرات الوحشية والعمليات الانتحارية التي تشارك فيها النساء اللاتي يخدعهن الوحوش من التكفيريين، إضافة إلى التعقيدات الداخلية في إلحاق هذه المدينة أو تلك بإقليم كردستان أو بالمناطق العربية، ما يؤدي إلى خلل في العلاقات السياسية أو إلى التجاذب بين السلطات الأمنية في حكومة المركز أو الإقليم. هذا إلى جانب الأوضاع القلقة التي تحكم العملية السياسية في الاختلافات الكثيرة التي تضعف البلد كله، ولا سيما في المرحلة التي تسبق الانتخابات".
وتابع:"إن العراق الذي عاش التعايش الإسلامي ـ المسيحي في تاريخه، فضلا عن العيش المشترك بين الفئات المختلفة دينيا ومذهبيا، قد واجه في هذه المرحلة اعتداء على المسيحيين الذي أدى إلى مقتل 11 مسيحيا خلال عشرة أيام، وتفجير ثلاثة منازل في الموصل، وتهديدا بقتل أبناء الطائفة إذا لم يرحلوا، وذلك بفعل المتطرفين والمتعصبين من التكفيريين، إضافة إلى بعض القوى السياسية التي لا تريد للعراق أن يعيش الوحدة والاستقرار في تنوعاته الدينية والمذهبية. وقد أدى هذا الوضع الكارثي إلى عملية نزوح جماعي لمئات العائلات".
وشجب " هذا العمل الشنيع الذي لا يقبله أي منطق إنساني وأي دين سماوي"، ودعا إلى إيجاد علاقات طبيعية بين المسلمين والمسيحيين في كل المنطقة العربية تقوم على الحوار والاحترام المتبادل". وقال:" نحن نقدر، في الوقت نفسه، مبادرة الحكومة العراقية، بالدفع باتجاه إجراء تحقيق فوري حول هذا الموضوع، واتخاذ الإجراءات الفورية واللازمة لإعادة العائلات المسيحية التي تم تهجيرها خلال الأيام الماضية، وحمايتها من أي عدوان جديد، ولا بد للجميع من أن يعرفوا حقيقة الاعتداءات الواقعة في العراق، فهي ليست صراعا بين المسيحيين والمسلمين، بل هي مشكلة أمنية تصيب جميع العراقيين من قبل الاحتلال والجهات التكفيرية وجهات سياسية تستفيد من هذه الأوضاع لحساب مشاريعها الخاصة. ولذلك، فلا مجال لاستغلال هذه الأحداث المؤلمة في مسألة التخطيط لإزالة الوجود المسيحي في المنطقة".
ثم تطرق الى الوضع في لبنان وقال:"اما في لبنان، فإننا في الوقت الذي نشعر بشيء من الارتياح لكوننا لم نتأثر داخليا بالأزمة المالية العالمية، فإننا نتساءل عن مئات المليارات العربية التي ابتلعتها هذه الأزمة، والتي كانت كفيلة بحل مشاكل الفقر والمديونية في العالم العربي، وخصوصا في لبنان الذي لا تزال الوعود العربية تنزل عليه من كل حدب وصوب لحل مشاكله الكثيرة في المديونية، أو في مسألة الكهرباء، أو في تأمين مصادر الطاقة على أبواب فصل الشتاء والعام الدراسي الجديد".
اضاف:"إننا نريد للعرب ألا يتدفأوا على نيران الحرائق اللبنانية التي كادت تأكل أخضر لبنان الذي يتغنون به كأبرز بلد للاصطياف، خصوصا وأن المسؤولين في لبنان أعلنوا عجز البلد عن شراء طائرتين ضروريتين لإطفاء هذه الحرائق، كما نريد لهم أن يشعروا بأهمية الدفء في علاقاتهم الأخوية التي نريدها أن تعود إلى أفضل حالاتها، ليرتاحوا من مشاكلهم وعقدهم الذاتية فيرتاح لبنان من ملفاتهم المثقلة بالهموم والغموم، ولذلك فنحن في الوقت الذي نرحب بالخطوة الأخيرة التي اتخذها الرئيس السوري، نأمل أن تكون فاتحة خير لعلاقات لبنانية سورية متينة ولعلاقات عربية ـ عربية سليمة.
وختم:" إننا نرى أن الأمن هو الذي يمنح البلد القوة والاستقرار والنمو والتطور، وأن المصالحات الجدية القائمة على المصارحة الواقعية هي التي تؤسس للوحدة الوطنية، ونود أن نعرب أيضا عن تقديرنا للأجهزة الأمنية على دورها في ملاحقة المتسببين بالمآسي الأمنية والسياسية الأخيرة للبنانيين، ونؤكد ضرورة أن يكون على جميع اللبنانيين أن يكونوا خفراء لحماية أمنهم الاجتماعي والسياسي واستقرارهم الداخلي".