ألقى آية الله السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
"في المشهد الصهيوني، يتوزع قادة العدو الأدوار في تجاذب سياسي يستحضر مواقع السلطة في المستقبل، ولا يلغي لعبة المكر السياسي في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، التي يلعب فيها العدو على الوقت الضائع وتفكيك المطالب الفلسطينية الواحد تلو الآخر، وتأخير البحث في مسألة القدس وصولا إلى إخراجها من دائرة التفاوض كليا، لأن الصهاينة يتطلعون إلى احتواء القدس على جميع المستويات، لتفتح لهم ـ هذه المدينة الروحية ـ أبواب القداسة المطلة على التاريخ، ولتشرع أمامهم أبواب العالم في مضمونها الديني الذي يعملون على تزويره في الحديث عن هيكل سليمان، وفي سعيهم لهدم المسجد الأقصى ومنع العرب والمسلمين من التفاعل مع مواقعهم المقدسة، ومن التواصل الروحي والعملي مع مسرى نبيهم ومعراجه".
أضاف:" هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن العدو يلعب على المفاوض الفلسطيني في طرح تبديل الأراضي لإبقاء المستوطنات والجدار الفاصل الذي يراد له أن يكون خط الحدود الذي ينهي الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، ومع ذلك، فإن رئيس وزراء العدو يحاول تهدئة خواطر الصهاينة وطمأنتهم بأن أي اتفاق من هذا النوع لن يبصر النور في التطبيق العملي إلا بعد عشر سنوات. وفي ضوء ذلك، تبرز الأهداف الإسرائيلية والأميركية الخبيثة من وراء مشروع المفاوضات الذي يراد له أن يضيق الخناق على الفلسطينيين، ويسقط حلم الدولة من وعيهم وسعيهم، وأن يقدم الى الإدارة الأميركية مكسبا سياسيا تستطيع استخدامه لحساب المرشح الجمهوري في الانتخابات الأميركية القادمة، وذلك عبر التوقيع على إعلان مبادئ عامة تساهم في تضييع القضية الفلسطينية أكثر، وتمنح العرب مزيدا من الأوهام السياسية في قضاياهم المصيرية".
وحذر السلطة الفلسطينية من متابعة السير في هذا الخط التدميري للقضية من خلال مفاوضات من هذا النوع، ودعاها إلى "الإفساح في المجال للمقاومة الفاعلة التي تستطيع أن تكبح جماح المشروع الإسرائيلي، وليصار إلى إعادة إنتاج القضية بالحركة السياسية والجهادية الفاعلة، التي تحمل الشعارات الواقعية في حركة الخطة التحريرية، والتي تجزم بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وليبقى كيان العدو مهتزا بفعل المقاومة الفاعلة التي تستطيع أن تخلط الأوراق في المنطقة لحساب القضية المركزية للعرب والمسلمين".
أضاف:" إن التهديدات المتلاحقة التي يطلقها وزير الحرب الصهيوني، والمتزامنة مع المناورات المكثفة التي يجريها جيش العدو، إضافة إلى الحديث الدائم عن خطط جاهزة للهجوم على إيران، قد يدخل في التجاذبات الصهيونية الداخلية، كما أنه يدخل في نطاق التخطيط المستمر للعدو لاختراق الساحة العربية والإسلامية الداخلية ومواقع الممانعة عندما يجد أن الظروف باتت ملائمة وأن ثمة استرخاء ما في ساحتنا قد يشجعه على القيام بمغامرة جديدة".
وتابع: " ومن المؤسف أن العالم العربي - والعالم الإسلامي - لم يأخذ هذا التطور التهديدي على محمل الجد بل إن أوضاع حكامهم وفاعلياتهم لا تزال مشغولة بالانحناءات الذليلة للموقع الأميركي الذي يدفعهم إلى الانفتاح على إسرائيل والانغلاق على حركات المقاومة والممانعة والتحرير, وربما كان من سلبيات هذه الأوضاع، أن العلاقات بين البلدان العربية لا تخضع للمصالح الحيوية ومواجهة التحديات الكبرى، انطلاقا من بعض التعقيدات الشخصية أو الإقليمية أو الدولية، حتى إننا نلاحظ صعوبة التلاقي بين المسؤولين العرب في هذه الدولة أو تلك.
بينما نجد انفتاحا على "إسرائيل" بالرغم من احتلالها لفلسطين الأرض والإنسان، وحصارها الخانق للشعب الفلسطيني، واجتياحها للقرى والمدن والمخيمات، وقصفها الوحشي للمناطق المدنية، واعتقالاتها اليومية للشباب الفلسطيني، ومصادرتها للأراضي المحتلة لبناء المستوطنات والجدار الفاصل، ورفضها للمطالب المشروعة للشعب الفلسطيني، ما قد يوحي بأن أكثر البلدان العربية قد نفضت أيديها من المسؤولية عن فلسطين، واكتفت بالمقررات الإنشائية التي لا تمنح الفلسطينيين حلا لمشاكلهم، بينما تتابع اللقاءات بالمسؤولين اليهود من دون أن تحقق أي مطلب للشعب الفلسطيني، بل إن بعض هذه الدول تشارك الدولة اليهودية في حصارها لقطاع غزة بحجة الاتفاقات الدبلوماسية مع "إسرائيل" وربما مع أمريكا. وهذا هو الذي يجعل الآخرين من دول الغرب والشرق يحتقرون العالم العربي في قضاياه المصيرية، ولاسيما في قضية العراق المحتل من قبل أميركا التي دمرت البنية التحتية، وأثارت الفوضى في أوضاعه، ونهبت ثرواته الطبيعية، وخططت للاستيلاء على نفطه، وضغطت على قراراته في تحقيق السيادة والحرية لشعبه، بفعل الخطط المرسومة للبقاء طويلا في أرضه، وربما لبناء قواعد عسكرية في مناطقه الإستراتيجية، ولم نجد للجامعة العربية أي صوت فاعل في رفض الاحتلال والاهتمام بآلام الشعب العراقي والتعاون مع المسؤولين فيه على حل مشاكله الكثيرة".
وتطرق الى الوضع في لبنان وقال: "أما لبنان، فلا يزال يعيش في الدوامة السياسية التي تحكمها لعبة الكرة المتمثلة بالوطن التي تتقاذفها أرجل اللاعبين في تسجيل النقاط بعضهم على بعض في ساحة آثر اللاعبون فيها عدم الاحتكام للحكم الخبير الأمين، بحيث بات الواقع السياسي يفتقد في دراسته الأمور، العقلية القضائية العادلة التي تدرس الظروف المحيطة بالموضوع الذي تختلف فيه وجهات النظر، ولذلك رأينا كيف تنطلق الأحكام بشكل عشوائي وبأسلوب التخوين المتبادل والإسقاط العدواني، حتى إن لغة الحوار الإعلامي تحولت إلى ما يشبه المهاترات حتى في داخل مؤسسات الدولة، من خلال خلفيات تختزن المشاعر المتوترة الحاقدة.
ولعل الخطورة تكمن في أن هذه اللغة في الصراع السياسي أصبحت لغة الشارع المتحزب والمتمذهب والمتطيف، فلم تعد المحبة هي العمق الإنساني للشعب، ولم تعد الرحمة هي الوسيلة التي تعبر عن العلاقات الوطنية، ولم تتحول المؤسسات إلى موقع لتبادل الأفكار بشكل عقلاني حضاري هادئ، بل تحولت إلى الأساليب الحادة المثيرة التي لا تدرس الأمور بموضوعية بحيث تتحول التخطئة إلى ما يشبه العداوة".
أضاف: "إننا نرى أننا في لبنان في أمس الحاجة إلى مباشرة الدخول في حوار المختلفين الذين يرصدون مصلحة بلدهم قبل رصدهم لمصالحهم الخاصة، ولا بد لهذا الحوار أن يسلك طريقه إلى المؤسسات بطريقة عملية مدروسة".
وتابع:" هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان الأوضاع الأمنية القلقة في أكثر من منطقة في لبنان أصبحت تمثل الخوف لدى المواطنين الذين لا يعرفون كيف تتحرك الفتنة حتى في الموقع الواحد، كما أن الحديث السياسي في الإعلام يثير المعلومات عن الأموال التي تجتذب الناس، ولاسيما الفقراء منهم، إلى المواقف المتوترة، وإلى الانتماءات الخاصة، وإلى المذهبيات الخانقة، سواء من الداخل أو الخارج، من أجل تنفيذ بعض المخططات المؤدية إلى إثارة الأوضاع في الواقع الإقليمي من خلال تعقيدات الواقع المحلي الداخلي... وهناك أكثر من حارس للفتنة، وموظف للإثارة، ومشجع للتطرف، ومساعد للإرهاب، لأن لبنان لا يزال ساحة للتجارب الخارجية التي تحاول أن تجمع المواطنين حول مشاريعها، مستغلة الضغوط القاسية التي تتحرك في حياتهم الخاصة والعامة، ما قد يؤدي إلى سقوط القتلى والجرحى والتهجير لحسابات مشبوهة لا علاقة لها بالوطن والمواطن، ولاسيما في هذا الجو العاصف بالرياح الدولية المتحركة في ساحات الصراع التي تذكر العالم بالحرب الباردة التي تثير في وجدانهم القلق والمخاوف من الحرب الحارة في مناطق النفوذ لهذا المحور الدولي أو ذاك، وهذا ما نريد للبنانيين وللعرب والمسلمين أن يتنبهوا إليه حتى لا يسقطوا في محرقة الكبار الذين يستفيدون من الفتنة المشتعلة التي يثيرونها في ملاعب الصغار".
وختم:" إن الناس يستقبلون هذا الشهر المبارك ليجدوا في مواجهتهم الغلاء الفاحش، والظلام الدامس، والظمأ المحرق، والجوع المؤلم، ولا يجدوا من الحكومة إلا المزيد من الكلام في الوعود التي يقطعها هذا الوزير أو ذاك، وتبقى في نطاق التمنيات أو تنتظر في أدراج المسؤولين الذين تتزايد وعودهم وتتناقص أفعالهم.إننا نحذر من إدخال القضايا المعيشية في متاهات اللعبة السياسية التي قد تسقط الهيكل على رؤوس الجميع، وعلينا أن نلتفت إلى أن الواقع في لبنان يلتقي بأوضاع الصراع في المنطقة التي تختزن فيها العلاقات الدولية الكثير من حالات الحذر المعقد، ويفقد لبنان في ارتباك علاقاته الداخلية والخارجية أكثر آفاق الأمل، لأن المطلوب هو أن يبقى وطن الساحة بفعل توظيف المخابرات الإقليمية والدولية لاهتزازاته الأمنية والسياسية للجدل العقيم، والطموح الهزيل، والامتداد للمصالح الدولية، ولا يراد له أن يكون وطن الدولة التي يلتقي مسؤولوها ومواطنوها على وحدة اللبنانيين وصناعة المستقبل".