وطنية-29/8/2008
ألقى آية الله السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات السياسية والاجتماعية والدينية، وحشد كبير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
"يكاد المشهد الفلسطيني يختصر الواقع العربي والإسلامي بكامله، في صورة نشطاء دوليين يحملون أطرافا صناعية إلى جسد بترت أطرافه من خلال الاحتلال والحصار التجويعي، والذي يشارك فيه بعض العرب إلى جانب إسرائيل. وإذا كان الشعب الفلسطيني قد عرف كيف يتعامل مع الاحتلال، وكيف يكسر شوكته بصموده وجهاده، فإن حصار الإخوة لا يخفف منه أن تنطلق اللقاءات الحوارية هناك في مصر، لأن الحوار يحتاج إلى مقدمات، ونريد لمصر أن تتمرد على ضغوط العدو والضغوط الأميركية لتتحرك في خط المقدمات العملية عبر فتح المعابر إلى غزة رغما عن أنف الاحتلال".
اضاف:" إننا نتطلع إلى الأمة كلها من النافذة الفلسطينية، لأن فلسطين كانت وستبقى القاعدة التي يمكن من خلالها أن يرتفع البنيان الإسلامي والعربي، أو أن يتعرض للسقوط والانهيار، ولذلك فإننا نرى في الحفريات الصهيونية في موقع المسجد الأقصى الخطر الداهم على بنيان المسجد، لا بل على البنية العربية والإسلامية برمتها، لأن ما يفعله الصهاينة ليس هدما لحائط أو إسقاطا لجدار في المسجد الذي بارك الله حوله، ولكنهم يعملون لهدم البنيان الإسلامي والعربي كله على رؤوس ساكنيه".
وتابع:" إننا ندعو المسلمين في العالم إلى مواجهة هذا الخطر الصهيوني الداهم بالمسؤولية الإسلامية الكبرى، لأن المسجد الأقصى ليس مجرد موقع فلسطيني، بل هو موقع إسلامي، وليس مجرد موقع في الجغرافيا، ولكنه مكانة في القلوب والنفوس، الأمر الذي يستدعي حركة إعلامية وسياسية وضغوطا هائلة لكف يد اليهود الغاصبين، ونحن في الوقت نفسه نسأل الدول العربية التي تقيم علاقات مع العدو في العلن أو في السر: هل باتت فلسطين خارج نطاق حساباتكم بالكامل؟ وهل خرج المسجد الأقصى نهائيا من جدول أعمالكم حتى تمتنعوا عن القيام ولو بحركة سياسية بهلوانية فيها رائحة تهديد بالمقاطعة؟".
واشار الى "ان المشكلة تكمن في أن الطبقة السياسية العربية والإسلامية بعامة لا تحترم مقدساتها، في الوقت الذي تقدس إسرائيل خرافاتها، ولا تعير هذه الطبقة اهتماما لأجيال فلسطينية تموت في السجون وتحت سياط الجلادين، أو تحت ضغط الحصار والتجويع، لأن "من يهن يسهل الهوان عليه"، ولأن "الجامعة العربية" أصبحت جامعة المشاكل والتناقضات العربية، كما أن "منظمة المؤتمر الإسلامي" انسحبت من مسؤولياتها الإسلامية، وبات الواقع العربي والإسلامي مختصرا في بيانات تصدر ـ وقد لا تصدر إلا بمرسوم ـ وكلمات يهذي بها فلان وعلان، فيما تترك المسألة "لإسرائيل" لكي تصادر المياه والأرض، وتواصل زحفها الاستيطاني، وتعتقل الآلاف من الفلسطينيين، حتى إذا أطلقت العشرات منهم صفق لها العالم المخادع، وهلل لها الواقع العربي الرسمي المهادن"
وتابع: "وسط هذا المشهد المأساوي والانهزامي، تعود قائدة محور الاعتدال العربي "رايس" إلى المنطقة، وإلى فلسطين بالذات، لتعلن أن تسلح سوريا يقلقها، بعد أيام معدودات على الإعلان الأميركي عن ربط "إسرائيل" بالمنظومة الصاروخية الأميركية، ولتتحدث عن تشجيعها للمفاوضات في المنطقة، وحل مشكلة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، مع علم الجميع أن هذه المفاوضات باتت تمثل أسلوبا أميركيا تخديريا في الوقت الضائع الذي لا تفكر فيه إدارة بوش إلا بإنهاء القضية الفلسطينية، وتدمير الواقع العربي والإسلامي، وتمهيد السبيل ـ عبر ذلك ـ لرئيس جمهوري جديد يعبر إلى البيت الأبيض على رابية من الجثث العربية والإسلامية".
اضاف:" لقد كنا نقول للفلسطينيين دائما: لا سبيل لمواجهة هذا الواقع الدولي المتآمر، وهذا الواقع الاحتلالي الغاشم، إلا بتماسك ساحتكم الداخلية، وترابط خطوطكم الوحدوية، ولذلك فنحن نرحب باللقاءات الحوارية وكل المحاولات لجمع الفصائل الفلسطينية، ولكننا نحذر من ربط هذه اللقاءات بعجلة التفاوض مع العدو، أو بعجلة الأنظمة العربية، لأنها أنظمة ما أطلقت عليه أميركا "الاعتدال" الذي لا تنظر إليه إلا من نافذة الهزيمة والاستسلام، في الوقت الذي يتطلع الفلسطينيون إلى فصائل متحدة متعاونة في خط التحرير، ورفع كاهل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية عن صدر الشعب الفلسطيني المعطاء، الصامد، الصابر".
وقال:" وإن علينا ـ ونحن نرصد الواقع الفلسطيني الصعب ـ ألا نغفل عن مأساة الشعب الأفغاني المظلوم والجريح، والذي دأب الاحتلال الأميركي وقوات الأطلسي على إدخاله في سلسلة من المجازر المتنقلة، والتي كان آخرها مجزرة "هرات" التي سقط فيها ما يزيد على تسعين قتيلا جلهم من الأطفال والنساء والشيوخ، في دليل آخر على استهتار قوى الاحتلال الأميركي والأطلسي بأرواح المدنيين الأفغان، واحتقارهم للمستضعفين من هذا الشعب، وربما كانت نظرتهم إليه لا تختلف عن نظرة أحد حاخامات العدو الذي وصف المسلمين والعرب بأنهم "حشرات وأفاعي يجب التخلص منها. إننا نقول للأفغانيين ما نقوله للعراقيين الذين يماطل الاحتلال الأميركي في برمجة انسحابه من أراضيهم: إن الخلاص لمأساتكم يبدأ من العمل على إخراج المحتل، ولتنطلق بعدها مسيرة الحوار الداخلي في إعادة بناء البلد بعيدا من استراتيجية الإجرام التي يستخدمها الاحتلال في أفغانستان كما يستخدمها في العراق، وبعيدا من مواقع التكفير التي تضع الشعب المستضعف في خانة المحتل، أو التي تعمل لمصلحة المحتل من حيث أرادت أو لم ترد.
إننا نعتقد أن جرائم الاحتلال المتصاعدة في أفغانستان والعراق هي نذر شر عليه، وأنها بداية النهاية له، ولكننا نحذر من أن الاحتلال الأميركي يزرع الفوضى حيث يحل، كما أن الإدارة الأميركية معنية بتفتيت الواقع العربي والإسلامي من الداخل، وعلينا ألا نخرج ما يجري في باكستان من حسابات هذه الإدارة، لنعمل ـ في المقابل ـ على إسقاط مشروعها الفوضوي التقسيمي، ليعرف العالم كله أن من يزرع ريح الفوضى لا يحصد إلا عواصف الفشل".
وتطرق آية الله فضل الله الى الوضع في لبنان، وقال: "أما في لبنان، فإننا نلمح محاولات متجددة لتحريك بعض العناوين الأمنية، طمعا في استيلاد مناخات عصبية تصب في حسابات انتخابية، وكأن المسألة الانتخابية في لبنان قد رسم لها طريق جديد لا يمر بالمسألة المالية فقط، بل يدخل عبر الأنفاق العصبية والمذهبية أيضا.إننا نستمع إلى كلمات تتكرر عن حقوق هذه الطائفة أو تلك، وعن حماية هذا المذهب أو ذاك، ونحن نسأل: هل بدأ الإعلان عن فشل الحكومة المسماة حكومة الوحدة الوطنية تحت واجهة من الشعارات والتوجهات المذهبية؟ وهل قرر كل هؤلاء أن يطلبوا الحماية تحت عباءة المرجعيات الطائفية والمذهبية على حساب العباءة الوطنية الجامعة؟ أو أن الحسابات الوطنية لا تصرف إلا في البنك المذهبي أو الطائفي الذي يتغذى من إمدادات عربية وإقليمية ودولية؟".
اضاف:" إننا نرفض الحديث عن فتنة لا وجود لها بالمعنى الدقيق إلا في أذهان بعض المشتغلين في السياسة، أو حتى في السلك الديني في لبنان، ونريد لهؤلاء أن يتقوا الله في كلامهم الذي يمثل المسعى الأساس لإحداث فتنة في الواقع، ونحن نستغرب كل هذه السرعة في سحب كلمات الوئام والتودد والمحبة من التداول لحساب كلمات الفتنة التي تستخرج من القاموس السياسي والديني، لإشعال الواقع بها أو لجعله رهينة لها.
إننا ندعو العقلاء إلى أن يبتعدوا عن إعطاء هذا الواقع الصفة المذهبية، وندعو الطبقة السياسية الرسمية أو غير الرسمية إلى الكف عن المطالبة بحقوقها في الدائرة الطائفية أو المذهبية، حيث نستمع إلى من يطالب بحقوق المسيحيين في تنوعاتهم المذهبية في الوظائف والمواقع، مع الجدل في مسألة الزعامة، ومن يطالب بحقوق المسلمين في تنوعاتهم المذهبية مع الإثارة المذهبية في الواقع الإسلامي، بما يثير الحقد ويسقط روح الوحدة والتفاهم حول المبادئ الثابتة في الخط الإسلامي".
وتابع:"أيها اللبنانيون، أيها المسلمون، أيها المسيحيون: لقد سلكتم فيما سبق طريق الفتنة، ودخلتم إلى ساحاتها من النوافذ المذهبية أو السياسية، ثم دخلتم في مسارات المصالحة ونسيتم المجازر كلها، من النبعة إلى صبرا وشاتيلا وغيرها، حتى إن بعضكم نسي أو تناسى أو يريد أن يتناسى "إسرائيل" في اجتياحها لبيروت وفي كل مجازرها. فلماذا تصرون على اختلاق فتنة غير موجودة ؟ ولماذا تتحركون لتكون الحكومة الائتلافية هي جامعة التناقضات السياسية؟ ولماذا تستمر المهاترات والاتهامات اللامسؤولة بما يعيد التجارب الفاشلة السابقة إلى الواجهة؟". إن "لبنانا" تصنعه المشاحنات، وتصوغه المهاترات، وتحركه التشنجات، هو لبنان الزعامات البائدة والعصبيات القاتلة، فتعالوا إلى الوحدة، تعالوا إلى الرحمة... ارحموا لبنان من طموحاتكم وأطماعكم الشخصية وذاتياتكم الطائفية والحزبية، قبل أن يلفظكم الشعب الذي لم يعد لديه من طاقة تتحمل عبثكم الصبياني، ولهوكم الطفولي في المواقع الرسمية والحزبية".
وختم:" أننا نستذكر في هذه الأيام الجريمة الكبرى التي تمثلت في اختطاف سماحة السيد موسى الصدر ورفيقيه والتي أريد لها أن لا يكشف النقاب عن تفاصيلها.أننا نؤكد في هذه المناسبة أن المسؤؤلية تقع على عاتقنا جميعا في الاستمرار بملاحقة المجرمين الذين خططوا لجريمتهم التي أرادت أخفاء علم إسلامي وركن لبناني يمثل العلم والعطاء والانفتاح والوحدة على جميع المستويات.كما نؤكد انه لا يكفي ان تتحرك الملاحقة على المستويات الإعلامية، بل لا بد من التحرك وعلى مستوى العالم العربي والإسلامي كله لكشف الحقيقة والمجرمين".