مزارع شبعا بين القرارين 1559 و 1595
ورقة عمل ألقيت في مؤتمر "الشرق" الذي أقيم في مدينة اسطمبول - تركيا من 9/11 إلى 13/11/2005 أعدتها الاعلامية وفاء حطيط
مقدمة
تعج منطقة الشرق الأوسط بالكثير من القضايا والملفات السياسية والعسكرية والأمنية الشائكة، ولا تفرق هذه القضايا بمشاكلها وخطورتها، بين الأنظمة والأحزاب والشعوب، وذلك في ظل هجمة أميركية عارمة تحت عنوان "الشرق الأوسط الكبير". ولبنان، الصغير بمساحته الكبير بتأثيراته، بات يشكل مفترق طرق في خضم هذه الأزمات، لا سيما أنه يستبطن تفاصيل ميدانية عديدة، تحوّلت مع تطور الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط إلى عناوين كبيرة، تختزن في طياتها محيطاً تتفاعل فيه الملفات وتتشابك فيه الخيوط العربية والدولية.
فلبنان تأثر ولا زال بالقضية الفلسطينية، وشهد تفاصيل النكبة، ومجريات الحروب العربية - الإسرائيلية، حتى بات معلماً ناصعاً في دروس المقاومة والحرية مع اندحار الاحتلال الإسرائيلي عن جزء كبير من أراضيه المحتلة في أيار عام 2000.
وها لبنان من جديد في قلب الأحداث مع جريمة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، التي أتت في توقيت خطير جداً في ظل رياح التغيير التي حملت لواءها جحافل القوات الأميركية، تحت شعار الديمقراطية الآتية مع فوهات المدافع وأزيز الطائرات، وروائح الدم المنبعث من ضحايا الحرب على العراق الجريح. ولعلها فرصة كريمة أنتهزها، من خلال استضافتي في هذا المؤتمر، لأتحدث عن جانب مؤثر جداً في خارطة الأحداث التي يشهدها لبنان والمنطقة، واخترت لورقتي عنوان: "مزارع شبعا بين القرارين 1559 و 1595" ولأطل من خلالها على واقع لا يخلو خطورة في منظومة الأهداف الأميركية - الإسرائيلية المعدة للمنطقة، وقد قسمت هذه الورقة إلى عدة عناوين، وضمن تسلسل موضوعي، انتهاءاً بعرض مجموعة من الخلاصات تليها مجموعة من التوصيات.
وأبدأ بالعنوان الأول.
الأهمية الاستراتيجية لمزارع شبعا
منطقة مزارع شبعا اللبنانية تابعة لقضاء حاصبيا الواقع في جبل الشيخ الذي يشكل حدوداً جغرافية طبيعية بين سوريا ولبنان، وتضم هذه المنطقة 14 مزرعة. وتعود الأهمية الإستراتيجية لمزارع شبعا اللبنانية إلى أربعة عوامل رئيسية:
1- اتساع مساحتها التي تمتد على 250 كم2، بطول 24 كلم وبعمق 15 كم، من الجسر الروماني على نهر الحاصباني (علو 450 متراً) حتى جبل الشيخ (علو 2600 متر).
2- موقعها الاستراتيجي، فهي تقع على مفترق الحدود بين ثلاث دول: لبنان وسوريا وفلسطين وتتربع على سفوح جبل الشيخ الغربية، وتشرف من الجهة الشمالية الغربية على وادي نهر الحاصباني ومرجعيون وحاصبيا. ومن الجهة الجنوبية الغربية على سهل الحولة. وهذا ما يجعلها بالغة الأهمية في الحسابات العسكرية الإسرائيلية، فقد بنى الاسرائيليون في مرتفعاتها، محطتهم الشهيرة المعروفة باسم "المرصد" الذي يعتبر من أكبر مراكز التجسس والانذار المبكر في المنطقة، وهو مجهّز بأحدث التقنيات المتطورة لكشف ورصد أي تحرّك عسكري أو غير عسكري ومراقبة محيط كبير من منطقة الشرق الأوسط تمتد من العراق حتى مصر، وبحكم هذه الصفة فهي حارسة البوابة الجنوبية ـ الشرقية للبنان.
3- ثرواتها الزراعية وبشكل خاص الثروة المائية. فإلى جانب وجود نبعين كبيرين في شبعا يغذيان المنطقة وصولاً الى جديدة مرجعيون (نبع المغارة ونبع الجوز) فإن شبعا تقع على خط المياه الجوفية الرئيسية لجبل الشيخ حيث يوجد ثاني أكبر خزّان مائي في شرق المتوسط، بعد خزان صنين ـ الأرز، ومنه تتفجر ينابيع بانياس واللدان والوزاني التي تشكّل المصدر الرئيسي لمياه نهر الأردن.
4- تمتاز بمساحات خضراء شاسعة، فضلاً عن التلال والمرتفعات التي تتألف منها أو تحيط بها، ومناخها المعتدل صيفًا ما يجعلها مركزًا مميزًا للاصطياف والاستجمام في الشرق الأوسط، وتساقط الثلوج فوق العديد من المزارع يجعلها صالحة لإقامة المراكز لممارسة كل أشكال الرياضات الشتوية، وخصوصًا التزحلق على الجليد، وقد أنشأ الاحتلال الاسرائيلي العديد من الفنادق والمنتجعات السياحية في نواحٍ منها تتجاوز في ارتفاعاتها قرابة 2000 متر عن مستوى سطح البحر. كما أقامت إسرائيل مستعمرة ضخمة لاستقبال يهود الفلاشا الذين بدأ استقدامهم من أثيوبيا اعتباراً من شباط / فبراير العام 2000.
مزارع شبعا.. مطامع إسرائيلية تاريخية
إن مطالعة سريعة في المقولات التلمودية واسترجاعاً بسيطاً في تصريحات القادة الإسرائيليين تاريخياً يظهر أن مزارع شبعا كانت تمثل هدفاً قديماً وجزءاً من المطامع الإسرائيلية في المنطقة، فمنذ العام 1948 اعتبر البروفسور "جورج آدم سميث" أن الجنوب اللبناني ومنه جبل حرمون يشكل امتداداً للأراضي المقدسة. وزعم أن أسباط "اسرائيل" الأربعة: ابزاشر، زبولون، آشر ونفطالي، قد سكنوها فترة من الزمن. كما ركّز ثيودور هرتزل، في مذكراته، على جنوب لبنان وجبل الشيخ نظراً الى أهميته الاقتصادية والعسكرية، ولاحتوائه على مصادر المياه الضرورية لتطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين، والتي هي أرض الميعاد لليهود وفق المقولات التلمودية.
بعيد وعد بلفور وضعت القيادات الإسرائيلية خططاً مختلفة لاستغلال مياه الليطاني واليرموك وثلوج حرمون. وشددت الحركة الصهيونية في مذكرتها الى مؤتمر الصلح على مسألة مياه جبل حرمون ونهر الليطاني. وأيّد هذا الطرح ضباط انكليز كبار أمثال "هاجن" الذي كتب بتاريخ 15/12/1919 الى وزير الخارجية البريطاني آنذاك كيرزون يطالب بإلحاق الليطاني وحرمون بفلسطين. وقد رفض الفرنسيون هذا الطرح، وأقصى ما تنازلوا عنه هو الإقرار بحصة فلسطين من مياه جبل حرمون المتدفقة جنوباً بنسبة 33 في المئة، إلا أن المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية أصرّت على ضم مياه الليطاني وجبل حرمون الى فلسطين. وكذلك قبيل مؤتمر سان ريمو في نيسان /أبريل عام 1920، أرسل "حاييم وايزمن" رسائل عدة الى قادة الدول المجتمعة مؤكداً إصراره على "اعتبار الليطاني وجبل الشيخ حدودنا الشمالية".
وعلى الرغم من الاتفاق الفرنسي ـ البريطاني على تحديد الحدود بين فلسطين ولبنان، أصرت الدعاية الصهيونية، على أن مياه الليطاني وحرمون هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لمستقبل الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وإزاء ضغوط المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة بعث ويلسون برسالة الى الحكومة البريطانية جاء فيها: "..إن نجاح القضية الصهيونية يتوقف على توسيع الحدود في الشمال والشرق إلى أن تشمل نهر الليطاني ومنابع المياه في حرمون..".
مزارع شبعا.. لبنانية بأبنائها وسلطتها
قرية شبعا ومزارعها مسجّلة في الدوائر العقارية اللبنانية وأهلها يدفعون الضرائب للدولة اللبنانية. وهي وحدة عقارية، والصكوك والإفادات العقارية التي يحملها سكانها تصدر عن الدوائر الرسمية في مدينة صيدا. وتؤكد القوانين اللبنانية الصادرة في فترة الانتداب، ومنها القانون الصادر في 20 نيسان / ابريل 1928، صلاحية سلطة محكمة حاصبيا البدائية التي كانت تمتد على كامل قرى مديرية حاصبيا ومنها شبعا ومزارعها، وثمة دعاوى مدنية وجزائية وجنائية في شبعا ومزارعها بتت بها محاكم البداية والاستئناف والتمييز. كما ثمة مستندات جمركية ورخص بناء لأهالي من هذه المزارع صادرة عن قائمقام مرجعيون.
كانت الدولة اللبنانية تمارس سيادتها على مزارع شبعا منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، خلال عهد الانتداب الفرنسي وبعد استقلال لبنان عام 1943، وكان القضاء اللبناني يمارس صلاحياته كاملة على هذه المزارع. وتؤكد تقارير الدرك في جنوب لبنان، أن شبعا ومزارعها بقيت حتى تاريخ 14/9/1965 تحت السلطة اللبنانية المباشرة، إلى أن حالت الحوادث الأمنية والظروف الناتجة عن التهجير الإسرائيلي للفلسطينيين من الأرض المحتلة عام 1967 إلى نشوء واقع أمني حال دون تمكين السلطة من ممارسة أدائها الميداني، ولم يصدر أي قرار عن الحكومة يشير الى تخلي لبنان عن سيادته عليها.
مزارع شبعا.. المنطق اللبناني - السوري
في 31 آب / أغسطس عام 1920 أصدر الجنرال الفرنسي غورو قراراً تحت الرقم 318 عرّف حدود لبنان الشرقية بحدود الأقضية ومنها قضاء حاصبيا، وقد تم التأكيد على هذه الحدود من خلال المادة الأولى في الدستور اللبناني الذي صدر عام 1926، ومما جاء فيها أنها تتبع: ".. حدود أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا الشرقية".
وخلال فترة الانتداب الفرنسي أغْفل خط الحدود المرسوم في 1923 ذكر تبعية هذه المزارع، ووضعتها بعض الخرائط ضمن الأراضي السورية، وفي عام 1946 وجهت الحكومة اللبنانية مذكرة إلى دمشق في هذا الشأن. وجاء الرد السوري بموجب مذكرة رسمية تحت الرقم 574 بتاريخ 29/9/1946، ليؤكد أن ما حصل خطأ فني بحت، وأن مزارع شبعا هي أراضٍ تحت السيادة اللبنانية، واستتبع ذلك تأليف لجنة سورية- لبنانية عام 1949 برئاسة وزير الدفاع اللبناني آنذاك مجيد أرسلان، واتفقت اللجنة على اعتبار مزارع شبعا جزءًا من الأراضي اللبنانية. وقبل وخلال حرب العام 1967 وقعت معظم هذه المزارع تحت السيطرة الإسرائيلية، وتم قضم بقيتها من قبل الاحتلال على مراحل منذ عام 1970 وحتى 1992.
لقد أكدت الدولة اللبنانية عقب الاندحار الإسرائيلي في أيار من العام 2000، في رسالة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة أن "الانسحاب الإسرائيلي جاء منقوصاً لأن مزارع شبعا ما زالت محتلة، وبالتالي يحتفظ لبنان بحقه في القيام بكل الإجراءات الدبلوماسية وغير الدبلوماسية لاستكمال تحرير ما تبقى من أراضٍ محتلة، وجاء في الجواب اللبناني: "ان الحكومة اللبنانية ما كانت لتحجم عن اتخاذ اي تدبير من شأنه تكريس حق لبنان في مزارع شبعا، وتوثيق هذا التكريس على الصعيد الدولي، الا ان الاحتلال الاسرائيلي لهذه المزارع يحول دون تمكين الجانبين اللبناني والسوري من الدخول الى المزارع المذكورة لترسيم حدودها، على الطبيعة اولاً، ومن ثم تكريس هذا الترسيم بموجب خرائط يوافق عليها الطرفان".
وفي مذكرة بعث بها رئيس الجمهورية العماد اميل لحود إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 4/5/2000 جاء ما نصه حرفياً: إن "تنفيذ القرارين 425 و426 يستوجب انسحاب "اسرائيل" الكامل من الأراضي اللبنانية الى ما وراء الحدود المعترف بها دولياً من دون قيد أو شرط. وهذه الحدود هي تلك التي تم ترسيمها عام 1923 مع فلسطين، والانسحاب الكامل يجب أن يشمل أيضاً مزارع شبعا. وأي تجاوز لهذه الحدود يعني أن "اسرائيل" لم تنسحب بموجب القرار 425، وأن تراجعها في تلك الحال يشكل إعادة انتشار وليس انسحاباً".
وفي مذكرة أخرى للرئيس لحود موجهة الى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 9/6/2000 جاء ما نصه حرفياً: "أما بالنسبة الى مزارع شبعا فقد كان واضحاً في تقرير سعادة الأمين العام بتاريخ 22/5/2000 أنه اعتمد خطاً عملياً في تلك المنطقة في ضوء عدم توافر خرائط قديمة تؤكد الحدود هناك بين لبنان وسوريا. وعلى هذا الأساس اعتبر الخط العملي هو الخط الفاصل ما بين انتداب "اليونيفيل" وانتداب "الأوندوف"، مع اشارة الأمم المتحدة الى أن هذا الخط العملي لا يمكن اعتباره في أي حال يمس الحقوق الحدودية المتبادلة بين الأطراف المعنيين. ولقد وافق لبنان على هذا التقويم في انتظار ايجاد صيغة مشتركة لمنطقة المزارع موقعة بينه وبين سوريا لتقديمها الى الأمم المتحدة".
وعلى خطٍ موازٍ، أكدت الحكومة السورية موقفها كتابةً في رسالة الى الامم المتحدة بتاريخ 25 تشرين الاول 2000 أوردت فيه: "إن الذي يهدد الامن والسلم في المنطقة هو استمرار تجاهل اسرائيل قرارات الشرعية الدولية وبخاصة قراري مجلس الامن 242 و338 وعدم استكمال انسحابها من الجنوب اللبناني الى الحدود المعترف بها دوليا، بما في ذلك مزارع شبعا واستمرار احتلالها للاراضي العربية بالقوة منذ حزيران 1967...".
وما يحسم السجال على المستوى السوري حول لبنانية المزارع ما جاء على لسان الرئيس السوري بشار الأسد في مؤتمر صحافي عقده في ختام زيارته الى باريس في 27 حزيران / يونيو عام 2001، حيث أكد أن "من يحدد جنسية هذه المزارع في القانون الدولي هما الدولتان الموجودتان على جانبي الحدود أي لبنان وسوريا، أما الأمم المتحدة فيمكن أن نسميها مستودعاً للاتفاق النهائي بين هاتين الدولتين" ويضيف الأسد: ".. نحن أعلنا بشكل رسمي أن مزارع شبعا لبنانية، وهذه المناطق هي محتلة الآن.. وفي المستقبل بعد أن يتم تحديد الحدود تقوم الدولتان بتسجيل هذا التحديد في الأمم المتحدة".
مزارع شبعا.. المنطق الدولي - الإسرائيلي
سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى اعتبار مزارع شبعا اللبنانية جزءًا من الأراضي السورية لا سيما بعد احتلال الجولان عام 1967، وأنها ليست أراضي لبنانية، وبررت موقفها هذا استناداً إلى خرائط الأمم المتحدة، التي تعلن أن ليس لديها ما يثبت ملكية لبنان لمزارع شبعا، باستثناء جزء صغير منها. وآخر ما سجل في هذا الإطار رفض مجلس الأمن الدولي تأكيد الدولة اللبنانية على لبنانية المزارع، وفي الوقت نفسه تبنى المجلس بإجماع أعضائه الخمسة عشر في 28/1/2005 القرار الرقم 1583 الذي ينص على تمديد مهمة القوة المؤقتة للأمم المتحدة في جنوب لبنان لمدة ستة أشهر، حتى 31 تموز 2005. وأشار المجلس إلى التقرير الذي وضعه الأمين العام كوفي أنان في أيار 2000، حول التحقق من انسحاب إسرائيل إلى ما وراء الحدود التي رسمتها الأمم المتحدة والتي تسمى "الخط الأزرق"، وتضع هذه الحدود مزارع شبعا المحتلة داخل سوريا. وأشار القرار إلى أن مجلس الأمن "اعترف بشرعية الخط الأزرق لتأكيد انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية تطبيقا لقرار مجلس الأمن 425 الذي أصدرته الأمم المتحدة في آذار من العام 1978"، وكتب أنان في تقريره أن "موقف الحكومة اللبنانية التي تستمر في عدم الاعتراف بشرعية الخط الأزرق في منطقة مزارع شبعا يتعارض مع قرارات مجلس الأمن".
ولا بد من الإشارة إلى عدة نقاط، وأهمها:
• بتاريخ 22 تشرين الثاني عام 1967 أصدر مجلس الأمن القرار رقم 242 بعد الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية ولم يأتِ على ذكر مزارع شبعا.
• بتاريخ 22 تشرين الأول عام 1973 أصدر مجلس الأمن القرار رقم 338 بعد الحرب العربية -الإسرائيلية الثانية، ولم يأتِ أيضاً على ذكر أي أراضٍ لبنانية محتلة.
• بتاريخ 9 آذار 1978 أصدر مجلس الأمن القرار رقم 425 وآلية تنفيذه في القرار 426 بعدما اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان في "عملية الليطاني"، ولم يذكر مزارع شبعا.
• بتاريخ 17 أيلول سنة 1982 أصدر مجلس الأمن القرار رقم 520 بعد عملية "سلامة الجليل" حيث اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان، وسقطت خلاله بيروت العاصمة العربية الثانية بعد القدس تحت الاحتلال، وطالب القرار بانسحاب كل الجيوش الغريبة من لبنان واحترام سيادته وحدوده المعترف فيها دولياً وبسط سلطة الدولة بقواها الذاتية على أراضيها.
لقد أكدت كل هذه القرارات على ضرورة سحب إسرائيل قواتها من الأراضي التي احتلتها من دون تحديد تبعية هذه الأراضي أو حدودها أو تاريخ احتلالها، وهو ما استغلته إسرائيل، ونادت على أساسه بالفصل بين المسارين اللبناني والسوري في مفاوضات مدريد التي بدأت عام 1990.
وبتاريخ 24 أيار 2000، انسحبت القوات الإسرائيلية من لبنان، بعد اثنين وعشرين عاماً من الاحتلال، بفعل عمليات المقاومة الوطنية والإسلامية، وأبقت على احتلالها لمزارع شبعا اللبنانية، وأعلنت تل أبيب أنها نفذت القرار 425، وعلى الأثر كلفت الأمم المتحدة مندوبين عنها وبمشاركة لبنانية وإسرائيلية رسم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، وأعلن المبعوث الدولي تيري رود لارسن أن الأمم المتحدة ستستخدم خط الحدود الدولية المرسوم في عام 1923، مع التعديلات المتوافق عليها بعد اتفاق الهدنة عام 1949. وهذا يعني أن المنظمة الدولية لن تستخدم الحدود الدولية المعترف بها لتنظيم عملية انسحاب قوات الاحتلال من جنوب لبنان، وأن هناك "تعديلات" مطلوب من المفاوض الإسرائيلي إجراؤها على خط الانسحاب هذا. وتأتي "مزارع شبعا" في مقدمة هذه التعديلات، وعليه تم رسم الخط الأزرق ووضعت مزارع شبعا داخل الأراضي السورية.
هذا الموقف جاء بمثابة تبنٍّ كامل للشروط الإسرائيلية التي وردت في الرسالة التي أرسلتها إسرائيل إلى الأمم المتحدة، ونقلها لارسن إلى المسؤولين اللبنانيين والسوريين خلال مفاوضات عملية ترسيم الحدود، حيث أعلنت "اسرائيل" أنها ستعمل على تنفيذ القرارين 425 و426، وعلى تراجع جيشها الى ما وراء الحدود المعترف بها دولياً، أي الى الحدود التي كانت عليها عام 1978 وهي بالتالي، اعتبرت أن مزارع شبعا غير لبنانية، وغير مشمولة بالقرار 425، لأن إسرائيل احتلت هذه الأراضي قبل هذا التاريخ، وخلال حرب 1967، وأن "اسرائيل" ستتفاوض بشأنها مع سوريا من ضمن القرار 242 وفي إطار مفاوضات السلام الشامل".
وقد ثبّت الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الموقف الإسرائيلي بأن مزارع شبعا لا تخضع للقرار 425، فقد قال في تقريره بتاريخ 22 ايار 2000 ما يلي: "جدير بالملاحظة أن هذه المناطق (أي مزارع شبعا) تقع في منطقة تحتلها اسرائيل منذ عام 1967 وتخضع، بناء على ذلك، الى قراري مجلس الامن 242 و338". هذا على الرغم من أن أنان ذكر في التقرير نفسه أن سوريا أبلغت الامم المتحدة موقفها هاتفياً حيث جاء في التقرير هذا النص: "وفي حديث هاتفي معي جرى في 16 أيار 2000، ذكر وزير الخارجية السوري السيد الشرع ان الجمهورية العربية السورية تؤيد المطالبة اللبنانية بشبعا".
الأمم المتحدة .. ازدواجية المعايير
في حمأة هذا السجال، ظهرت جملة تجاوزات ارتكبتها الأمم المتحدة في سير تطبيقها للقرارات الدولية، وفي مقدمتها أن ما يسمى "الخط الأزرق" الذي رسمته الأمم المتحدة لا يتوافق جغرافياً مع مفهوم الحدود المعترف بها دولياً، وفق ما أورده القرار 425، وهي الحدود التي عيَّنتها اتفاقية "بوليه ـ نيوكامب" البريطانية ـ الفرنسية الموقعة في العام 1923، وفي هذا التاريخ لم تكن هناك على الكرة الأرضية دولة اسمها "اسرائيل"، ولم يتم الاعتراف بوجودها سوى في العام 1949 بعد قرار تقسيم فلسطين، حيث تم قبولها بضغط أميركي - بريطاني كعضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة على الرغم من عدم الاعتراف بها من قبل العديد من دول العالم.
وفي الإطار نفسه، نرى أنه لم يتم الالتزام بمضمون القرار 426 الذي يحدد آليات تنفيذ القرار 425، وفي استرجاع تاريخي - ميداني لما جرى عقب الاندحار الإسرائيلي نرى أنه لم يتم احترام بنود هذا القرار من قبل الأمم المتحدة، وهو ما لم تعتمده المنظمة الدولية في التدقيق بادعاء إسرائيل تنفيذ القرار 425، فالقرار 426 يحدد ثلاثة أمور أساسية هي:
1- قوات الأمم المتحدة هي التي تشرف على الانسحاب الاسرائيلي، وتتأكَّد من تطبيقه واستكماله حتى الحدود المعترف بها دولياً.
2- قوات اليونيفيل هي التي تتولى حفظ الأمن والسلام ضمن دائرة عملياتها الجديدة بعد جلاء الاحتلال، وتساعد الحكومة اللبنانية في مرحلة لاحقة في إعادة سيطرتها على الأراضي اللبنانية من دون استثناء.
3- تنسحب القوة الدولية بعد إنجاز المهمات المذكورة، ويبقى مراقبو الهدنة للتأكد من احترام أحكام هذه الهدنة على طول الحدود المعترف بها دولياً بين لبنان وفلسطين، وهو ما تنص عليه المادة الخامسة من اتفاقية الهدنة الموقعة في العام 1949.
إن هذه الملاحظات تقود إلى فتح باب كبير وواسع للنقاش حول الخلفيات والأهداف التي وضعت مزارع شبعا اللبنانية ضمن محور خلاف دولي، في حين أن معالجة حدودية ثنائية بين لبنان وسوريا قد تتيح حل المعضلة بشكل جذري، بدون الدخول في متاهات تطبيق القرارات الدولية، وموقف الأطراف المعنية منه. إلا إذا كان الهدف من وراء ذلك تعقيد المسألة باتجاه فرض حلول من شأنها تحوير الوقائع، وقلب المعادلة، بحيث يتم حشر كل من سوريا ولبنان في زاوية عدم الانصياع للقرارات الدولية، والتمويه على ارتكابات خطيرة مارستها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ولا تزال، على صعيد تطبيق القرارات الدولية، لا سيما منها المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في كل من فلسطين وسوريا ولبنان، بدءاً من القرار 181 مروراً بالقرار 194 فالقرارين 242 و338 وصولاً إلى القرارين 425 و 426، دون أن نذكر مشاريع القرارات التي كادت تدين الجرائم الإسرائيلية لولا حماية الفيتو الأميركي.
مزارع شبعا بين القرارين 1559 و 1595
في الثاني من أيلول / سبتمبر عام 2004، أصدر مجلس الامن القرار 1559 الذي نص على:
أ. انسحاب كل القوات الاجنبية من لبنان.
ب. حل كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها.
ج. بسط سيطرة الحكومة اللبنانية على كامل الاراضي اللبنانية.
د. أن تكون العملية الانتخابية حرة ونزيهة في الانتخابات الرئاسية في لبنان وتجري بموجب القوانين الدستورية اللبنانية وبدون تدخل او تأثير اجنبي.
وقد حدد القرار مهلة ثلاثين يوماً للأمين العام للأمم المتحدة لكي يضع تقريراً عن تنفيذ لبنان وسوريا لبنوده، وبعد هذه المهلة أصدر عنان تقريراً ضمّنه الكثير من الشروحات، وحمل مضامين سلبية، وافاد عنان أن القرار 1559 عنى بشكل واضح القوات السورية في حديثه عن القوات الأجنبية، لاعتباره أنها القوات الوحيدة التي لا تزال متمركزة في لبنان، مع العلم بأن دمشق كانت قد أتمت في ذلك الوقت خامس عملية انسحاب لقواتها من لبنان، ولم يتبقّ على الأرض اللبنانية سوى ثلاثة آلاف جندي، ولم يشر عنان إلى القوات الإسرائيلية المتمركزة في مزارع شبعا، لأن مجلس الأمن كما أسلفنا يعتبر أن إسرائيل طبقت القرار 425 بخلاف ما تؤمن به الحكومة اللبنانية. ولا يخفي الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره المرافق بالقرار 1559 أنه بنى تقديراته على أساس معلومات أبلغته بها الحكومة الاسرائيلية بأنه لا يزال هناك 14 الف جندي سوري في لبنان، وغالبيتهم يتمركزون قرب الحدود السورية ولا يتوغلون في لبنان، في حين أن الحكومتين اللبنانية والسورية أبلغتاه أن توقيت الانسحابات السورية الاخرى رهن بالوضع الامني في لبنان والمنطقة، وانه سيتم تحديده من خلال اللجنة العسكرية المشتركة التي تأسست بعد اتفاق الطائف.
لقد عنى القرار 1559 بشكل واضح أيضاً سلاح المقاومة في حديثه عن حل كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع اسلحتها. حيث أشار إلى أنه لا يزال هناك العديد من العناصر المسلحة في الجنوب. وأن المجموعة المسلحة الاهم التي لا تزال موجودة في لبنان هي "حزب الله" مع إشارته إلى رفض الحكومة اللبنانية تصنيف "حزب الله" بالميليشيا وتسميتها له "مقاومة وطنية" تهدف الى حماية لبنان من اسرائيل وطرد القوات الاسرائيلية من الاراضي اللبنانية، ولا سيما مزارع شبعا. وقد رد عنان على الموقف اللبناني بالقول إن إسرائيل لبّت اعتباراً من 16 حزيران 2000 البنود الواردة في قراري مجلس الامن 425 و426 والتي تنص على "سحب قواتها حالا من كل الاراضي اللبنانية"، دون ألأخذ بعين اعتبار التحفظات اللبنانية.
أما الاتجاه الآخر في الحديث عن نزع أسلحة الميليشيا غير اللبنانية، فكان يقصد به المجموعات الفلسطينية المسلحة، مع العلم أن عنان يشير في تقريره إلى أن الحكومة اللبنانية أكدت له أنه لا يحق للمقاتلين الفلسطينيين مغادرة مخيمات اللاجئين وبحوزتهم اسلحة. وأن الحكومة اللبنانية وضعت قواتها المسلحة خارج المخيمات من أجل تطبيق هذه السياسة، فضلاً عن مطالبتها بضرورة حل مشكلة اللاجئين، وأن التسوية النهائية لمسألة الشرق الاوسط يجب ان تتضمن بندا حول عودة هؤلاء اللاجئين الى بلادهم.
وفي موازاة ذلك، أثار عنان جانباً آخر من الموضوع بالحديث عن بسط السلطة اللبنانية على كامل أراضيها، وعلى الرغم من إقراره بتنظيم لبنان انتخابات بلدية سلمية في الجنوب في أيار 2004، إلا أن عنان اعتبر أن المنطقة حول الخط الازرق لا تزال متوترة. وان الهدوء الذي أعقب الانسحاب كثيراً ما عكرته أعمال عنف، فالجيش اللبناني لم ينتشر على طول الخط الازرق، مشيراً إلى أن قوات "اليونيفيل" تحدثت عن حصول انتهاكات على جانبي هذا الخط، مصدرها "حزب الله" والجماعات الفلسطينية. وأنه من المؤكد على نطاق واسع أن عمليات "حزب الله" تنفذ خارج اطار سيطرة الحكومة اللبنانية وموافقتها. مع أن عنان ينقل في فقرة أخرى من التقرير بأن الحكومة اللبنانية تنفذ ما ورد في اتفاق الهدنة اللبناني - الاسرائيلي الموقع في 23 آذار 1949 الذي يقيّد قدرة لبنان على نشر قوات في أجزاء من جنوب لبنان، حيث يضع الاتفاق قيوداً على أعداد وأنواع، القوات العسكرية التي يمكن للفريقين نشرها في منطقة الحدود بين البلدين، وقوامها 1500 جندي، وهذا ما تلتزم به الحكومة اللبنانية.
وفي المقابل، بدا وكأن عنان يحاول تبرير الخروقات الإسرائيلية للخط الأزرق حيث تبنى التبرير الإسرائيلي بأن الانتهاك المنتظم للطائرات الحربية الإسرائيلية للسيادة اللبنانية عبر تحليقها في الأجواء اللبنانية، وخرقها جدار الصوت فوق المناطق السكنية. كل ذلك عائد إلى أسباب أمنية. وتعمّد الإشارة إلى أن قذائف "حزب الله" المضادة للطائرات تجاوزت الخط الأزرق إلى داخل الأراضي الإسرائيلية وأوقعت أضراراً. ولم يذكر عنان أن الانتهاكات الإسرائيلية اليومية لا تنطبق بأي معيار من المعايير مع القرارات الدولية، حيث تزرع القوات الإسرائيلية مواقع عسكرية مدججة بالجنود والأسلحة ومراكز المراقبة والتنصت، فضلاً عن الانتهاكات البحرية والبرية، وعمليات التوغل داخل الأرض اللبنانية وعمليات الاختطاف التي تستهدف مدنيين لبنانيين من مزارعين يعملون في حقولهم.
لقد كان التدخل الدولي في الشؤون الداخلية اللبنانية واضحاً من خلال إشارة عنان في تقريره إلى تمديد ولاية الرئيس إميل لحود لثلاث سنوات على سدة رئاسة الجمهورية، وقد أقر عنان بأن ما تم جاء على أساس دستوري بما بتوافق مع الدستور اللبناني، وبموافقة 96 نائباً ومعارضة 29 وغياب ثلاثة، ومددوا بذلك ولاية الرئيس لحود ثلاث سنوات، تنتهي في 23 تشرين الثاني عام 2007. وأن هذا الأمر كان حصل في لبنان مرتين في عامي 1947 و1995. إلا أنه على الرغم من ذلك فقد أخذ برأي المعارضة التي ترى أن التمديد جاء نتيجة تدخل مباشر للحكومة السورية.
وفي تأكيد إضافي على التدخل في الشؤون اللبنانية، تبنى عنان في فقرة أخرى من التقرير بأن هناك اعتقاد على نطاق واسع في لبنان أن الوجود العسكري السوري، بما فيه مجموعة أساسية من المسؤولين المخابراتيين بلباس غير عسكري، يوفر لسوريا نفوذا كبيراً على الشؤون اللبنانية الداخلية، واستدلّ على ذلك بالإشارة إلى وجود روابط رسمية شديدة بين لبنان وسوريا كما يُلاحظ أن لا علاقات دبلوماسية بينهما، فليست هناك بعثة لبنانية ديبلوماسية في دمشق، ولا بعثة ديبلوماسية سورية في بيروت، مع العلم بأن التاريخ القديم والحديث لم يرصد وجود سفارات متبادلة بين لبنان وسوريا.
وقد أنهى عنان تقريره، بالقول إن "انسحاب القوات الأجنبية وحل الميليشيا ونزع سلاحها سوف تضع حداً في النهاية لذلك الفصل الحزين من تاريخ لبنان.. ولا أزال أتطلع إلى تحقيق سلام شامل وعادل ونهائي في الشرق الأوسط".
في الرابع عشر من شباط لعام 2005 اهتز لبنان ومعه المنطقة العربية على وقع الزلزال الذي أحدثته عملية الاغتيال التي استهدفت الرئيس رفيق الحريري. وأحدثت هذه الجريمة تطوراً دراماتيكياً على مجرى الأحداث، ومنعطفاً خطيراً سيحمل انعكاساته ليس على لبنان فحسب بل على المنطقة بأسرها. وفي استعراض سريع للمجريات التي تلت الجريمة، أصدر رئيس مجلس الأمن في اليوم التالي للجريمة بياناً طلب فيه من الأمين العام "متابعة الموضوع في لبنان عن كثب وإصدار تقرير عاجل حول ظروف وأسباب وعواقب هذا العمل الإرهابي". وفي 18 شباط أعلن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان انه سيرسل بعثة تقصي حقائق إلى بيروت برئاسة المفوض في الشرطة الإيرلندية بيتر فيتزجيرالد لجمع معلومات ضرورية من أجل تقديم تقرير إلى المجلس بطريقة دقيقة. وبتاريخ 25 شباط حط فيتزجيرالد رحاله في بيروت وبدأ لقاءاته مع المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين وأنهى مهمته في 16 آذار.
إن ما يدعو للتوقف قليلاً هو الاستنتاجات السريعة التي خلص إليها فيتزجيرالد، وتبناها عنان الذي اعتبر أن نتائج هذا التحقيق تثير بعض الاتهامات الخطيرة جدا والمقلقة، وبالتالي هناك حاجة لتحقيق مستقل ودولي. وقد استند عنان في دعوته هذه إلى خلاصة توصل إليها فيتزجيرالد من أن الاغتيال حصل في سياق سياسي وأمني تميز باستقطاب حاد حول النفوذ السوري في لبنان وفشل الدولة اللبنانية في توفير حماية ملائمة لمواطنيها. فضلاً عن أن التحقيق الذي أجرته الأجهزة اللبنانية لم يجرِ وفقاً لمعايير دولية مقبولة، وبالتالي فإن وجهة نظر البعثة هي أن التحقيق اللبناني يفتقد لثقة الشعب الضرورية لتكون نتائجه مقبولة.
وقد استنتجت البعثة أن الأجهزة الأمنية اللبنانية والاستخبارات العسكرية السورية تتحمل المسؤولية الأولية لنقص الأمن والحماية والقانون والنظام في لبنان. كما أن الأجهزة الأمنية اللبنانية أظهرت إهمالاً منظماً وجدياً في القيام بالواجبات التي تؤديها عادة الأجهزة الأمنية الوطنية المحترفة. وخلال قيامها بذلك، فشلت على نحو خطير في توفير مستوى مقبول من الأمن، وهي لذلك ساهمت في انتشار ثقافة الترهيب والإفلات من العقاب. وتشارك الاستخبارات العسكرية السورية في هذه المسؤولية من خلال تورطها في إدارة الأجهزة الأمنية اللبنانية. والإشارة الأوضح في التقرير جاءت في الفقرة الأخيرة منه حيث يختم فيتزجيرالد على غرار ما انتهى إليه عنان في تقريره حول تطبيق القرار 1559، بالقول: "ان وجهة نظر البعثة هي ان الدعم السياسي الدولي والاقليمي سيكون ضرورياً لحماية وحدة لبنان الوطنية وصيانة سياسته الهشة من الضغط غير المرغوب به. ان تعزيز فرص السلام والامن في المنطقة سيوفر أرضية صلبة لاستعادة الوضع الطبيعي في لبنان".
لقد وفّرت هذه الخلاصة السريعة الفرصة لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لرعاية مشروع قرار حمل الرقم 1595، وصوّت عليه مجلس الأمن بالاجماع بتاريخ 7 نيسان / أبريل عام 2005 وقضى بتشكيل لجنة تحقيق دولية لمساعدة السلطات اللبنانية في التحقيق الذي تجريه في جميع جوانب هذا العمل الإرهابي. ومنح القرار اللجنة سلطات واسعة وصلاحيات استثنائية وأتاح لها الوصول بشكل كامل الى جميع المعلومات والأدلة الوثائقية والمادية والواردة في شهادة الشهود، وأن يكون لها سلطة جمع المعلومات والأدلة الإضافية، الوثائقية والمادية واجراء مقابلات مع جميع المسؤولين وغيرهم من الأشخاص في لبنان، وأن تتمتع بحرية التنقل في جميع أنحاء الأراضي اللبنانية.
ترأس المفوض في الشرطة الألمانية المحقق ديتليف ميليس لجنة التحقيق الدولية، وباشر مهامه في بيروت مع حوالي خمسين من المحققين المعاونين، وسخّرت الدولة اللبنانية كل إمكاناتها في سبيل إنجاح مهمته. كما أن تشكيل حكومة جديدة برئاسة نجيب ميقاتي، وإجراء انتخابات نيابية أفضت إلى أغلبية للتيار المؤيد للرئيس الراحل رفيق الحريري، ساهمت في تقديم المزيد من التسهيلات أمام ميليس، وهو ما قاده إلى استجواب العديد من الشخصيات السياسية والحزبية في لبنان، وتوقيف رؤساء الأجهزة الأمنية الرئيسية الأربعة في لبنان.
طلب ميليس تمديد أمد مهمته تمهيداً لوضع تقريره،وهو قدّمه إلى الأمين العام للأمم المتحدة في التاسع عشر من تشرين الأول / أكتوبر عام 2005، وكان البارز فيه توجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى السلطتين اللبنانية والسورية، بالوقوف وراء اغتيال الحريري، حيث جاء في فقرة من تقريره المستفيض أنه "بناء على ما توصلت إليه اللجنة والتحقيق اللبناني حتى الآن، وعلى أساس الأدلة المادية والوثائق المجموعة، والقرائن التي أمكن الحصول عليها حتى الآن، ثمّة أدلّة تتفق على أن ثمّة تورّطا لبنانيا وسوريا في هذا العمل الإرهابي. ومعروف جيداً ان للاستخبارات العسكرية السورية وجود نافذ في لبنان، على الأقل حتى انسحاب القوات السورية، بموجب القرار 1559. وكبار مسؤولي الأمن اللبنانيين السابقين كانوا معينين من قبل جهاز الاستخبارات السوري هذا. ولما كانت أجهزة الاستخبارات السورية واللبنانية العاملة معاً متغلغلة في المؤسسات والمجتمع في لبنان، فإنه يصعب تخيّل أن يكون هذا الاغتيال المعقّد قد ارتُكب من دون معرفتها".
أفرز تقرير ميليس في كل من لبنان وسوريا أوضاعاً بالغة التوتر والتعقيد، وراهن عدد من الأطراف اللبنانية على نتائجه، خصوصاً لجهة توجيه إدانة صريحة لسوريا، في حين أن ميليس نفسه أنهى تقريره بعبارة تقول: "ان اللجنة ترى ان جميع الاشخاص، بمن فيهم اولئك الذين اتهموا بجرائم يجب ان يعتبروا أبرياء الى ان تثبت ادانتهم في محاكمة عادلة".
خلاصة
ما يهمنا بعد هذا الاستعراض المسهب بدءاً من الحديث عن مزارع شبعا، مروراً بالقرارين 425 و426 ومقدمات إصدار القرارين 1595 و1559، القول إن كل هذه المجريات كانت ترمي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار الأداء السياسي القديم - الجديد والمواقف المعلنة لكل من واشنطن وتل أبيب، وما حصل ولا يزال يحصل من مجريات على الساحة العراقية، وما يطلق من تهديدات موجهة إلى إيران على خلفية الملف النووي، وأخيراً ما يجري في لبنان وسوريا لرأينا أنها تجمع على خلاصة واحدة وهي ضمان سلامة وأمن إسرائيل والمحافظة على تفوقها العسكري والاستراتيجي في المنطقة.
إن الرعاية الأميركية لحل قضية الشرق الأوسط والصراع العربي - الإسرائيلي مرت بدءاً من إطلاق مفاوضات مدريد في العام 1990 بمخاضات عسيرة، وتعرضت للكثير من الانعطافات الحادة نتيجة التعنت الإسرائيلي، والعرقلة المقصودة لمسار المفاوضات، ففي حين أن لبنان وسوريا أصرا على ارتباط المسارين في المفاوضات، كانت حكومات إسرائيل المتعاقبة تصر على فك المسارين، وهي قد نجحت في استفراد العنصر الفلسطيني وإبعاده عن نقاط القوة في الملف التفاوضي اللبناني - السوري، وصولاً إلى فرض الشروط التعسفية على الفلسطينيين.
لقد داب المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون على الإعلان بأن جريمة اغتيال الحريري تشكل مناسبة مؤاتية وفرصة ثمينة لحصار سوريا وعزلها عن محيطها العربي والإسلامي، وقد عمدت الإدارة الأميركية إلى إيهام الرأي العام العربي والعالمي بأن إسرائيل تنحو باتجاه الحل من خلال الانسحاب من جنوب لبنان، تطبيقاً للقرار 425، على الرغم من التحفظ اللبناني، كما أشرنا، وكذلك من خلال سحب قواتها من قطاع غزة، مع أن الواقع في المنطق العسكري والأمني يشير إلى أن ما جرى لا يعدو كونه انتشاراً عسكرياً، وبإمكان القوات الإسرائيلية من خلال تمركزها على الحدود اللبنانية، وكذلك داخل وخارج حدود قطاع غزة يمكّنها من العودة إلى مواقعها السابقة.
إن مزارع شبعا تشكل قطب الرحى عند المثلث الحدودي بين لبنان وسوريا وفلسطين، ولذا فهي قضية لا تقف عند كونها مجرد نزاع بين مجموعة من الأطراف على تنفيذ قرار دولي، بل تشكل ملفاً يختزن الكثير من مقومات الصراع، التي تترك أثرها على المنطقة برمتها، ويمكن تلمس مجموعة من الأهداف التي تقف خلف إثارة قضية المزارع وأهمها:
• نزع أحقية لبنان ومشروعية مقاومته لتحرير ما تبقى من أرض محتلة، وهو ما استطاعت المقاومة انتزاعه بعد عدوان "عناقيد الغضب" عام 1996، وتتسلح إسرائيل بمواقف الأمم المتحدة في هذا المجال بذريعة أنها نفذت القرر 425.
• إسقاط مقدرات القوة والحماية من لبنان إزاء أي عدوان إسرائيلي محتمل، وذلك من خلال الدعوة إلى تنفيذ القرار 1595 وبالتالي نزع سلاح حزب الله، وهذا الأمر يساهم أيضاً في إسقاط المقولة بلبنانية مزارع شبعا.
• زرع بذور الفتنة والشقاق بين اللبنانيين سواء الدولة أم المقاومة أم الأحزاب المختلفة، وذلك من خلال الإصرار على تجريد المقاومة من سلاحها، وهو ما يجمع اللبنانيون حالياً على التأكيد بأنه لا يحصل سوى بحوار واتفاق داخلي، وليس بقرار دولي.
• إن المطالبة بنشر الجيش على الخط الأزرق، وفق ما يطالب به القرار 1559 وتالياً القرار 1614 سيكون نقطة خلاف بين التيارات اللبنانية المختلفة، لا سيما أن إرسال الجيش وفق الآليات التي نصت عليها وثيقة انان، سيؤدي عملياً الى تثبيت الخط الأزرق، وهو عملياً خط قابل للتحريك والتغيير وفق الضرورات الاسرائيلية، وبتغطية من الشرعية الدولية هذه المرة. كما سيؤدي الى توريط الجيش اللبناني في ترتيبات أمنية تحفظ "حدود اسرائيل".
• إثارة مشكلة حدودية بين لبنان وسوريا بالادعاء أن مزارع شبعا خاضعة للقرارين 383 و224 اللذين صدرا بعد احتلال الجولان عام 1967، وبالتالي فإن التفاوض حول هذا الموضوع يكون حصراً مع الطرف السوري، بذريعة أن لا وجود لمشكلة دولية مع لبنان.
• فك الارتباط بين لبنان وسوريا واستفراد كل طرف بعدما فشلت محاولات إخضاع كل من بيروت ودمشق للقرار الأميركي من خلال المفاوضات. وتعتبر الإدارة الأميركية أنها نفذت الفصل الأول من هذا الهدف من خلال دفع سوريا إلى سحب قواتها تنفيذاً للقرار 1559.
• إثارة الخلاف بين لبنان وسوريا عبر السعي إلى إدانة دمشق وتحميلها مسؤولية جريمة اغتيال الحريري، وبالتالي قطع أطر التواصل والدعم السوري للأحزاب والتيارات في لبنان التي تتوافق مع دمشق في ما يتعلق بثوابت القضية الفلسطينية، وهو ما يسهّل عملية استفراد هذه الأطراف، وبالتالي جعل لبنان ساحة مناوئة للقضية الفلسطينية، وهو ما يريح إسرائيل ويزيل من أمامها عقبة كأداء على طريق استمرار تطبيع العلاقات مع الدول العربية.
• قطع التواصل بين سوريا والفصائل الفلسطينية التي تتخذ من لبنان أو سوريا مقراً لها، وحصار هذه الفصائل وعزلها سياسياً وأمنياً عن طريق تجريدها من السلاح وممارسة ضغوط مباشرة عليها، وبالتالي إيجاد شرخ بين هذه الفصائل وجمهورها من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وصولاً إلى دفع هذه الفصائل إلى أنفاق مغلقة، بحيث لا يعود أمامها سوى الانصياع للشروط الأميركية والإسرائيلية، تحت عنوان الحل الشامل.
توصيات
وعليه، نرى لزوم اعتماد مجموعة من الخطوات التي نوردها تحت عنوان توصيات، والتي آمل أن تأخذها أمانة سر المؤتمر في عين الاعتبار، وتضمينها البيان الختامي، وأهمها:
1. تشكيل لجان وفق اختصاصات مختلفة (حقوقية، إعلامية، برلمانية..) مهمتها صياغة مجموعة من التوجهات في سياق مدروس، وذات أهداف محددة تندرج ضمن أطر مواجهة المشروع الأميركي المخطط للمنطقة.
2. دعم الهيئات والجمعيات الأهلية في الدول العربية والإسلامية، من خلال السعي لدى الحكومات والمؤسسات الرسمية، باتجاه تفعيل المشاركة في الندوات والمؤتمرات التي تحمل نفس العناوين التي يحملها هذا المؤتمر الكريم لما لذلك من أهمية على مستوى توحيد الجهود وتثميرها، بدل ضياعها في مبادرات فردية ومتفرقة.
3. خلق اطر تواصل بين الفعاليات والشخصيات التي تتوافق في ما بينها على وعي خطورة المرحلة، وصياغة آليات تنسيق واضحة ضمن برنامج زمني ممنهج، يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات السريعة التي تحصل في المنطقة، والاتفاق على لغة تخاطب واحدة لمواجهة التحديات الطارئة.
4. إصدار منشورات دورية يشترك فيها الكتاب والمفكرون هدفها تبيان خطورة الموقف الدولي الذي يسير ضمن الأجندة الأميركية والتحذير من خطورة التماهي بين الموقف الدولي من جهة وبين الموقف الأميركي والموقف الإسرائيلي من جهة ثانية، لما لهذا الأمر من تداعيات سلبية خطيرة على المنطقة واستقرارها.
5. إقرار برامج توعية سياسية وحقوقية، من خلال إقامة سلسلة من الاجتماعات واللقاءات في دول كل من الزملاء المشاركين في هذا المؤتمر، واقترح في هذا الإطار أن يصار إلى صياغة أجندة خاصة يقوم بتنفيذها الزملاء المشاركون،كل في بلده، على أن يتولى كل واحد مهمة التنسيق مع الأطراف المعنية في بلده.
6. تنظيم حملات توعية إعلامية، هدفها العمل على إعادة الروح إلى المفاهيم السامية التي تنص عليها القوانين الدولية، والتي تؤكد على احترام الانسان وحقه في تقرير المصير، ورفض الاحتلال ومصادرة الحريات تحت عنوان الديمقراطية، ويمكن الاستفادة في هذا المجال من الوسائل الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، خصوصاً الفضائيات العربية.