18-4-1996
كانت مجزرة النبطية الفوقا، فاتحة يوم الخميس الاسود والمشؤوم (18 نيسان) الذي انتهى بمجزرة قانا. وكان الجنوبيون استفاقوا صباح ذاك اليوم على اخبار الكارثة التي المت باسرة العابد التي قضت نحبها وهي لا تزال نائمة، بعد ان اغار الطيران الصهيوني تمام الساعة السابعة صباحاً على مبنى علي جواد مكي في النبطية الفوقا الذي كانت عائلة العابد انتقلت اليه مع اندلاع العدوان الصهيوني، ظناً منها انه اكثر اماناً من منزلها الذي يقع على مقربة من موقع الاحتلال في الدبشة.
وحولت الطائرات الصهيونية المنزل المؤلف من ثلاث طبقات الى ركام اختلطت احجاره بجثث الام واولادها السبعة الذين كانوا في هذه الاثناء ما زالوا نياماً في الطابق الاول.
وكانت عائلة العابد فضلت عدم ترك النبطية، لان ما كابدته في تهجير العام 1993 لا يشجع على ترك المنزل تحت أي ظرف، اضافة لذلك كانت الام حاملاً، مما يزيد في صعوبة الانتقال وتحمل مشاق التهجير.
كانت المولودة المنتظرة هي "نور" التي كانت حين بدأ العدوان 11 نيسان1996 تستعد للخروج من رحم امها بعد ستة ايام، وحينما جاء اليوم السادس عشر من نيسان خرجت "نور" الى النور وبدت ارادة الحياة في ذاك الصباح اقوى من ارادة الموت والدمار اللتين تزرعهما الالة العسكرية الصهيونية في عرض الجنوب وطوله.
يوم 18 نيسان كانت نور اتمت اليوم الثالث من عمرها، ولكنه كان الاخير، اذ استشهدت "نور" مع والدتها فوزية خواجا التي كانت لا تزال في حالة النفاس ومع اخوتها الستة "لولو" (15 عاماً)، محمد (14 عاماً)، علي (12 عاماً)، هدى (10 اعوام)، فدى (6 اعوام)، مرتضى (4 اعوام). كما استشهد يحيى ابراهيم بصل ونجا ابراهيم العابد بأعجوبة، بعد ان ظل رأسه محشوراً بين حجرين كبيرين لفترة غير قصيرة، واصيبت شقيقته نجود بجراح بليغة.
لم يبق من العائلة الا الوالد، حسن العابد الذي يروي قصة المجزرة الصهيونية بحق عائلته منذ البداية: "منزلي يبعد عن موقع الدبشة المشرف على بلدة النبطية الفوقا مئات الامتار فقط. فكرت ان انتقل بعائلتي الى منزل اخر في نفس البلدة، يملكه علي جواد مكي، فقد كان قراري هو ان لا اغادر البلدة، فجربت النزوح في العام 1983، وحصدت الاهانة.
وكنت مع مطالع هذا العام عقدت العزم على حج بيت الله. وفي ايام حمل زوجتي "نور" كنت ارفع يدي نحو السماء واردد بعد كل صلاة (اللهم ارزقني حج بيتك الحرام).
ورغم ان العدوان الصهيوني صادف مع مرحلة استعداد الحجاج للمغادرة الى الديار المقدسة، الا انني كنت ما ازال اعتزم الذهاب وان بشيء من التردد، ولكن في اليوم الثاني للعدوان، شملت عائلتي بنظرة جياشة، وقررت فجأة ان لا اذهب هذا العام، فعائلتي بحاجة الي ثم "الله كريم وسيرزقني الحج مرة ثانية"، ولكن زوجتي (ام ابراهيم) حثتني على الذهاب وقالت لي: انت اذهب الى الحج ونحن هنا بخير وعندما تصل الى المدينة توجه الى قبر الرسول (ص) وادعوه ان يحمينا.. وانا اعلم بان دعاءك مستجاب لان الله استجاب لك في دعائك اياه للذهاب الى مكة المكرمة، وادعوه ايضاً ان يخلصنا منهم (أي الصهاينة).
ومع اصرارها توجهت الى مكة بعد ان اطمأنيت الى ان عائلتي ستبقى في الطابق الارضي الامن، ثم ودعتهم جميعاً وسرت ببركة الله.
تركت السيارة النبطية الفوقا باتجاه بيروت، في حين كانت الطائرات الصهيونية تستبيح فضاء النبطية ومنطقتها. وفي السابعة والنصف من صباح الخميس 18-4-1996 رمت الطائرات الاسرائيلية باوزان حقدها على منزل علي جواد مكي، فتحول الى كومة حجارة مرصوصة، وتحولت عائلتي تحته الى اشلاء متناثرة.
وجه ام ابراهيم تشوه واحترق وكانت بملابس النوم مخضبة بدمائها. وابراهيم الذي نجا باعجوبة كان رأسه محشواً بين كتلتين من الاسمنت. اما باقي الاخوة فاختلطت اشلاؤهم وتجمعت بقرب الطفلة الرضيعة نور.
في هذه الاثناء، وبينما كنت استعد لركوب الطائرة متوجهاً الى مكة المكرمة، سمعت نبأ الغارة على النبطية الفوقا. دققت بالامر، فعرفت بواسطة الفلاشات الاخبارية الاذاعية المتكررة حقيقة الكارثة التي المت بي. سارعت الى العودة وانا اهيم على وجهي تاركاً امتعتي في المطار. ذهبت الى البرادات ادقق ببقايا الوجوه، ثم رأيتهم فعفرت وجهي بدماء الاحبة؛ عاتبتهم كيف يسبقونني الى الباري".
وقال العابد للصحفيين حينما كان يتفقد ولده ابراهيم وابى رؤية ابنته نجود لانه لا يتمالك نفسه قال: لا اريد شيئاً. فقط اريد معاقبة "اسرائيل". لقد خسرت كل شيء. لم يعد لي امل بالحياة سوى معاقبة "اسرائيل".
وتحدث كامل جابر (مراسل النهار ووكالة رويتر وصوت الشعب) عن ظروف المجزرة، فقال: "علمنا في البداية ان الطائرات قصفت منزلاً في النبطية الفوقا. فحسبنا الامر عادياً، حيث تعودنا على استهداف "اسرائيل" للمنازل ولم يأتِ على ظني حدوث مجزرة كالتي شاهدتها.
وعندما ذهبت الى المستشفى الحكومي، شاهدت جثة فتاة مشوهة بشكل رهيب، فادركت وقتها ان ما حصل هو مجزرة بشعة، فتوجهت الى مكان المنزل المستهدف حيث كان الوجود يلف الجميع والمأساة اكبر من ان توصف. كانت الاحجار مختلطة بالدم. كان المشهد فظيعاً. بداية شاهدنا جثة لشاب ظنناها في اول الامر للاب، ثم تبين لاحقاً انها لشخص اخر. بعدها اخرجوا ثلاث جثث لاولاد في الرابعة والسادسة والسابعة من اعمارهم ووضعوهم باكملهم على حمالة واحدة، في احد جهاتها تجاور رأسان والرأس الثالث جاور ما تبقى من الاقدام.
هذا المشهد لن يمحى من ذاكرتي. وبينما كنت اقوم بالتصوير كنت ابكي بشدة والعن اليهود بصوت عال".