الطريق الى المجزرة
كان يفر من القصف العشوائي الذي الهب الجنوب اللبناني في شهر نيسان من العام 1996 عندما ترصد له طيران العدو "الاسرائيلي" واطلق عليه صواريخه المجرمة.
ستة من الشهداء وسبعة من الجرحى من النساء والاطفال صغراهم لم تتجاوز الشهر الاول من عمرها، وكبراهن لم تتعدَّ الخامسة والثلاثين منه.
الشهداء:
1 - منى حبيب شويخ (35 سنة)
2 - نوخا العقلة (35 سنة)
3 - زينب عباس جحا (7 سنوات)
4 - هدوء خالد العقلة
5 - نين عباس جحا (3 سنوات)
6 - مريم عباس جحا (شهر واحد)
الجرحى
1 - يسرى عقلة العقلة (35 سنة)
2 - فضيلة ماجد العقلة (33 سنة)
3 - ناديا الخالد (20 سنة)
4 - عايدة الخالد (11 سنة)
5 - منار فادي الخالد (7 سنوات)
كيف حدثت المجزرة؟
حوالى الساعة الثانية من بعد ظهر يوم 13/4/1996، عبرت سيارة اسعاف تابعة لكشافة الرسالة الاسلامية - الجمعية الخيرية لبلدة المنصوري - تقل نازحين حاجز القوات الفيدجية العاملة في اطار القوات الدولية على طريق الحنية، ولم تكد السيارة وهي من نوع فولفو بيضاء اللون، وتحمل ضوءاً احمر على سطحها، تبتعد حوالى عشرين متراً عن الحاجز حتى هاجمتها المروحيات الاسرائيلية واطلقت عليها صاروخاً موجهاً، ما ادى الى انحراف السائق عن الطريق وتحطمها لدى دخولها في بناء مجاور. وقد استطاع احد الناجين مغادرة السيارة والوصول الى مركز الوحدة الفيدجية التي تلكأت قرابة ربع ساعة، بشهادة وكالة رويتر، عن مد يد المساعدة، قبل ان تتحرك ناقلة جند نحو مكان وجود سيارة الاسعاف وتبدأ بنقل المصابين.
وتروي نجلا ابو جهجاه المصورة الصحفية لوكالة رويتر تفاصيل عن المجزرة فتقول "لقد رأيت مجازر من قبل، ولكن مجزرة سيارة اسعاف المنصوري هي الابشع". تقول نجلا ابو جهجه التي تسرد القصة الكاملة للمجزرة:
"كعادتي في كل مرة يحصل فيها عدوان صهيوني على الجنوب، اقوم بجولة ميدانية على القطاع الاوسط، لانقل مشاهد الدمار والقتل الذي تمارسه "اسرائيل" بحق الجنوبيين، الى الرأي العام الدولي. بعد جولة لي على عدد من قرى القطاع، وصلت قرابة الساعة الثانية والربع ظهراً يوم 13 نيسان الى طريق المنصوري - القليلة، حيث قررت ان اتحين الفرصة لالتقاط صورة لحاجز قوات الطوارىء الدولية، وهو خال من العناصر بسبب القصف الاسرائيلي العنيف، وما ان فرغت من ذلك حتى سمعت صوت سيارة اسعاف، فجهزت نفسي لالتقاط الصور ظناً مني انها تنقل جرحى. مرت سيارة الاسعاف بالقرب منا، فشاهدت بداخلها على عكس ما توقعت، عائلة نازحة معظمها من الاطفال، وقد وضع على سطحها ضوء احمر وشارة تدل على انها سيارة اسعاف وكتب عليها انها تابعة للجمعية الانمائية لابناء المنصوري - الوقف الاسلامي.
في هذه الاثناء كان السائق قد اشار لي ان امر قبله، لكنني فكرت بالتقاط بعض الصور الاخرى، وفجأة سمعت صوت مروحيات اسرائيلية تقترب من المكان. اختبأت جانب جدار لالتقاط الصور لها للحظات قليلة، واذا بدوي انفجار يسمع في المكان، فارتفعت سحب الدخان، ثم سقط صاروخ آخر. بدأت بالتقاط الصور. وسرعان ما انقشعت الرؤية. نظرت الى الطريق، لم اشاهد شيئاً، قلت الحمدلله لم يصب احد بأذى.
وعملت على تهدئة روعي من هول الغارة التي لم يكن بعد قد انجلت بالكامل صورة الموقف الذي خلفته. ولم يخطر ببالي ان تكون سيارة الاسعاف قد اصيبت. ثم ظهرت فجأة سيارة مرسيدس بيضاء. وبعد لحظات ظهر رجل يحمل طفلتين تسيل الدماء من وجوههما التي اختلطت بغبار الارض، وهو يصرخ ويردد "لقد قتلوا اولادي". ثم ظهر رجل اخر يحمل طفلة وهو يهرول ايضاً مذعوراً. حاولت ان التقط صوراً لهما. وما ان اقتربا حتى اتضح لي انهما جريحان وان الطفل الذي حمله احدهما لا يتجاوز الشهر الواحد من عمره، قد اصيب بجرح بالغ في رأسه، فتهشم جزء منه، فيما الطفل الاخر كان في السابعة من عمره تقريباً وكان الدم يسيل بغزارة من وجهه. وكان احد الرجلين يصرخ ويقول بصوت مخيف ردد صداه ارجاء المكان: "اربعة اولاد يا عالم". بينما الرجل الاخر كان يضرب رأسه، فيما الفتاة التي برفقته كانت تقول: اختي انفجر رأسها.
حاولت الدخول الى البستان حيث كان ينبعث دخان خفيف، فسلكت طريقاً جانبياً، وهناك وجدت المفاجأة: سيارة الاسعاف عينها التي مرت قبل قليل، اصطدمت بالحائط من جراء اصابتها بصاروخ الطوافة الصهيونية، وكان المشهد مرعباً، كان بداخلها امرأتان، واحدة في الخمسين والاخرى في الثلاثين من العمر ومعهما ثلاثة اطفال، جميعهم كانوا ملطخين بالدم.
وكانت هناك طفلة تلقي رأسها على نافذة السيارة وتحاول ان تفتح عينيها. كانت تحتضر، وما لبثت ان فارقت الحياة بوداعة لافتة.
وفي المقعد الخلفي وبين جثث عائلتها شاهدت طفلة كانت تقوم وتقعد، ثم نامت من دون حراك، ظننتها ماتت ولكني عرفت فيما بعد انها مصابة.
بينما الصغيرة في حضن امها كانت ايضاً جثة هامدة والى جانبها فتاة تصرخ "يا عمتي.. يا عمتي".
حاولت فتح الباب لانقاذ احد ما... لم استطع. طلبت من حاجز قوات الطوارىء ان يفعل شيئاً، فلم يتجاوبوا.
كان الموت هو الاقوى، اطفال يرقصون من حلاوة الروح بين جثث اهلهم. طفلة تفتح عينيها وتحتضر بهدوء تحت اشعة الشمس وفوق جثة امها". (الوسط 5/4/1996)
ويقدم سامر ابو هواش في جريدة السفير 17/4/1996 افكاراً حول المجزرة ورواية فيقول:
"كان هناك في الجنوب اكثر من 40 قرية مهددة بالقصف. والمهلة المعطاة للاهالي لكي يغادروا منازلهم وقراهم ويلحقوا بمواكب النازحين شمالاً، تنتهي عند الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم 13/4/!996. غير ان القصف بدأ قبل ذلك بكثير، والنزوح ايضاً. من بين النازحين عائلة "جحا": اب وزوجته وصهره واخته واطفالهم السبعة. الساعة الثانية ظهرا: عائلة جحا تحاول النزوح مع النازحين من قرية المنصوري الى مدينة صور. سيارة الاسعاف التي تقل افراد العائلة الاحد عشر سوف تمر على الطريق العام لقرية الحنية المجاورة، غير انها سوف تبقى هناك. طائرتان مروحيتان سوف تحلقان في المدى القريب، صاروخ سينطلق. معظم افراد عائلة جحا سوف يقتلون، وبعد قليل حكايتهم سوف تثير العالم بأسره.
صحافية كانت موجودة لحظة قصف الاسعاف وقامت بالتقاط مشاهد كاملة عن المجزرة. هذه الصحافية هي نجلاء ابو جهجاه، تقول:
"وصلنا الى مفرق الحنية حوالى الساعة الثانية ظهراً" تقول نجلاء، وتضيف راوية لنا عبر اتصال هاتفي اجريناه معها من مكانها المتنقل في مدينة صور، وقائع الحادثة:
"كان هدفنا تصوير النازحين بالاضافة الى تغطية الغارات المحتملة. لدى وصولنا كان الحاجز التابع لقوات الطوارىء الدولية خالياً تماماً من عناصره. حاولت التقاط صورة للحاجز الخالي، وصادف في هذه اللحظة مرور اشخاص نازحين من قرية المنصوري وقرى اخرى. بين النازحين كان هنالك سيارة اسعاف، وقد ظننت للوهلة الاولى انها تنقل جريحاً، فالتقطت صورتها وهي قادمة باتجاهنا. وعند اقترابها لمحت في داخلها اطفالاً ونساء فأدركت انها عائلة نازحة".
دوي القصف يسمع عبر سماعة الهاتف. تخبرنا نجلاء انه في هذه اللحظات تتعرض مدينة صور للقصف المكثف، ثم تتابع فتوضح ان سيارة الاسعاف، بيضاء اللون كانت تطلق نفيرها واضواءها في اللحظة التي وصلت فيها الى مفرق الحنية ولم تكن كما تردد في بعض وسائل الاعلام سيارة فولفو خضراء تابعة لحزب الله، كما اكدت لنا ان سائق السيارة كان شخصاً مدنياً كما يبدو من ذقنه الحليقة وثيابه العادية. وتتابع: حولت نظري قليلاً عن سيارة الاسعاف وحاولت التقاط مشاهد اخرى. في هذه الاثناء سمعت اصوات طائرات مروحية تحلق قربنا. التفت فرأيت طائرتين مروحيتين تحلقان فوق رؤوسنا مباشرة. حاولت التقاط صور للطائرتين غير ان احداهما اطلقت صاروخاً في هذه اللحظة. التفت ناحية سيارة الاسعاف فرأيت لهباً قوياً ينبعث منها ودخاناً.
بعد دقيقة لمحت نجلاء اشخاصاً يهرعون باتجاهها. رجل يحمل طفلين احدهما رضيع والاخر فتاة في السابعة. الدماء كانت تغطي وجهه وكان يصرخ ويقول "اولادي... راحوا اولادي الاربعة.. راحوا". صوت الرجل اختلط مع صوت طفلة في الحادية عشرة من عمرها: "بدي اخواتي.. اختي انفجر رأسها". رجل آخر كان يصرخ: "يا مرتي.. يا مرتي.. راحوا اولادي". تؤكد لنا نجلاء ان هؤلاء حاولوا الاستعانة بمركز القوات الدولية القريب "غير ان احداً هناك لم يحرك ساكناً، وكأن الامر لا يعنيهم".
بعد دقائق عرفنا ان سيارة الاسعاف هي التي قد اصيبت"، تقول نجلاء، اما بقية الحكاية فنعرفها جميعاً، ذلك اننا رأيناها، كما العالم اجمع في الفيلم الذي صورته نجلاء: امرأتان جثتاهما شوهنا بالكامل، اربعة اطفال يحتضرون. وباختصار صورة حقيقية عن الموت هي الاكثر رعباً بين صور اخرى كثيرة.
العالم اجمع رأى هذه الصور غير ان القصف لم يتوقف بعد، والنزوح لم يتوقف بعد. الاسرائيليون لم يستطيعوا عرض شريط المجزرة عبر وسائل اعلامهم لانها، بنظرهم، "ابشع من ان تعرض". هذا ما قاله الاسرائيليون فيما اكدوا ان عملياتهم "الجراحية الرائعة" لا تستهدف المدنيين بقدر ما تستهدف مواقع عسكرية لـ"حزب الله". هذا ما يفترض ان توحي به المهلة التي منحوها للمدنيين لكي يغادروا بيوتهم وقراهم تمهيداً.. لقصفها. فالاسرائيليون يحسبون، ويريدون العالم ان يحسب معهم، ان تهجير الناس ورميهم في العراء لا يعد استهدافاً لهم. وهم يحسبون ان الموت لا يتأكد الا من خلال الصورة، ولذلك يخافون منها. الصورة بالنسبة لهم هي الشهادة الحقيقية على القتل. وخارج الصورة ليس ثمة قتلى وجرحى ونازحون.
بمحض المصادفة تمكنت كاميرا نجلاء ابو جهجاه يوم السبت الماضي من التقاط نموذج صغير عن المجازر التي يرتكبها الاسرائيليون. امامي هنا صورة طفلة يتدلى رأسها من النافذة. لا اعرف اسمها او اسم احد اخوتها واهلها. لا احد في العالم يعرف، لا احد في العالم سيعرف.
ويروي ابو شهداء مجزرة المنصوري عباس جحا تفاصيل الجريمة كما عاشها فيقول: "انها سيارة اسعاف، ليست سيارة عسكرية. هدد اليهود الناس باخلاء القرية، فرحت آخذ الناس والجرحى الى صور، وبقيت عائلتي وعائلة اخوتي في البلدة. وضعت الاطفال مع عائلتين في سيارة الاسعاف، أي 13 فرداً. وعندما تخطينا حاجز الطوارىء اغارت علينا مروحية صهيونية، فأصابت السيارة بصاروخ. صرت اصرخ واطلب النجدة والمساعدة من الجنود الفيدجيين، ولا احد يتحرك، رحت ابكي واضرب نفسي، رفعت جثث اولادي الاربعة بيدي.
غير ان ناطقاً باسم الجيش الاسرائيلي اقر لاحقاً بان احدى الطوافات الاسرائيلية قصفت سيارة اسعاف في جنوب لبنان فقتل فيها ستة مدنيين. لكنه برر ذلك بان السيارة عائدة الى "ارهابي من حزب الله".
وقال "اذا كان اشخاص آخرون اصيبوا في الهجوم فلان حزب الله استخدمهم غطاء لانشطته"، واضاف: "على حد معلوماتنا فان الارهابي اصيب".
وخلص: "لقد حذر الجيش الاسرائيلي المدنيين مراراً بضرورة الابتعاد عن مراكز حزب الله لانه سيشن عمليات ضدها. ونحن نكرر تحذيرنا المواطنين اللبنانيين للابتعاد عن ارهابيي حزب الله لتجنب الاصابة بأذى.
منظمة العفو الدولية والانتهاكات
قال عضو وفد منظمة العفو الدولية الى لبنان كلاوديو كورودوني انه حصل انتهاك واضح للقوانين الدولية التي تؤكد ضرورة عدم اطلاق النار على المدنيين. لكن هذا لم يتحقق في العملية التي استهدفت سيارة الاسعاف في المنصوري، والاسرائيليون اعترفوا في ما بعد".
- هل تأخذ منظمتكم بالتبريرات الاسرائيلية؟
"اسرائيل" قالت ان سائق سيارة الاسعاف ينتمي الى حزب الله لكن لا شيء يثبت الى الان ان السيارة المستهدفة كانت تستعمل لاغراض عسكرية.
أي سلاح قتل اطفال المنصوري؟
بعد حصول الصحافي روبرت فيسك (الاندبندت) على بقية صاروخ المنصوري من احد عناصر القوة الدولية وجد عليه كتابة تدل على صنعه في الولايات المتحدة. فقام بالسفر الى هناك لمعرفة هل ان الشركة المصنعة تعلم كيف استخدم هذا الصاروخ، وهل تتحمل اية مسؤولية في ذلك، او تشعر بذنب.
وقال مسؤولو شركة "روكويل" التي تصنع هذه الصواريخ، انها غير معنية بوجهة الاستعمال ونفوا علمهم بما فعل بها الاسرائيليون "الذين لا يعطون الكثير من المعلومات" علماً ان هذه الصواريخ تصدر ايضاً الى بلدان اخر كمصر وافريقيا الجنوبية والامارات العربية.
وكشف احد المسؤولين في الشركة ان "هذا الصاروخ هو بلا شك الاكثر دقة من نوعه في العالم".
وعندما قال لهم الصحافي ان هذا الصاروخ استخدم ضد سيارة اسعاف، وليس ضد هدف عسكري، نفوا علمهم بذلك، مؤكدين انهم يصنعون انظمة للصواريخ "وفقاً لطلب الولايات المتحدة، ونأخذ الاذن ببيعها من دول عديدة... لكننا لا نصنع صواريخ مجهزة لاستهداف المراكز غير العسكرية".
وبعد بضعة ايام عادت شركة "روكويل" ونفت للصحافي صنعها الصاروخ نتيجة درس الجزء المتبقي منه ونصحوه بالتوجه الى شركة اخرى في فلوريدا، قالوا انها تصنعه. وفي هذه الشركة التي يملكها لوكيد مارتين، سمع الصحافي الاقوال نفسها ومنها: "كل يوم تطلق النار على 600 شخص في امريكا، ولم يذهب احد ويستفهم عن ذلك عند صانعي هذه الاسلحة".
فمن يتحمل مسؤولية المجازر الاسرائيلي؟!
وهل ان الولايات المتحدة الامريكية مسؤولة اخلاقياً فقط عن السلاح الذي يوجه لردع "اسرائيل" ودرء مجازرها الدموية. والسؤال هو ان كان اطفال المنصوري وقانا وكل لبنان وفلسطين يستحقون شيئاً من الرعاية التي تؤمنها القوانين والشرائع الدولية... والامريكية خصوصاً.