الكاتب: امين مصطفى/ كاتب لبناني
كلما اوغلت "اسرائيل" في حربها ضد لبنان كلما تكشفت حقيقة استهدافاتها والابعاد الاساسية التي تنطوي عليها، بالرغم من كل الادعاءات السياسية والامنية التي تحركت في ظلها.
فعملية "عناقيد الغضب" في 11 نيسان/ ابريل 1996، بدت في مظهرها الخارجي في الايام الاولى، انتخابية ترمي الى تعويم رئيس الوزراء الاسرائيلي شمعون بيريز، وتحسين صورته وموقعه في الشارع الاسرائيلي، الا انها سرعان ما تبينت نواياها من خلال الرسائل السياسية المتعددة التي وجهتها الى عدد من الدول العربية والاقليمية والدولية، اضافة الى الرسائل الامنية التي قصدت حزب الله وسوريا وايران.
لا شك ان العدوان، في احد وجوهه هدف الى تكريس زعامة بيريز، ودعمه، واعطاء حزب العمل الاسرائيلي فرصة جديدة، لمواصلة التسوية السلمية، مدعوما من الولايات المتحدة الامريكية، وما تظاهرة "شرم الشيخ" السياسية، وما تبعها من اجتماعات واشنطن الامنية، وفي لوكسمبورغ، الا نتائج صبت في خانة هذا التوجه.
لقد حاول بيريز قطف هذه الثمار سريعا، ليكلل زعيما لا يقبل المنافسة ليس داخل "اسرائيل" وحدها، بل على مستوى الشرق الاوسط الجديد الذي طرحته وتبنته واشنطن، لذلك حشد كل آلته العسكرية الجوية والبرية والبحرية، واستجمع كل قواه الاستخباراتية، وحشد كل امكاناته الاعلامية والدعائية المحلية والعالمية، واستنفر كل حلفائه واصدقائه، ليشن حرب تحديد مصيره على الاراضي اللبنانية، بعد ان فشل في تحقيقها على الساحة الفلسطينية بعد العمليات الاستشهادية في القدس المحتلة وتل ابيب وغيرهما.
وكان في ظن بيريز انه خلال ايام قليلة سيحسم الامر لصالحه، وسيبعد كاتيوشا المقاومة اكثر من 20 كلم عن الحدود الشمالية، ويوجه ضربات موجعة الى حزب الله، من خلال ضرب قواعده، وركائزه الاساسية، وتصفية عدد من قادته السياسيين والعسكريين، وهو بذلك اكد انه لم يتعلم من تجارب لبنان السابقة ابتداء من العام 1970 ولغاية 1993، حيث اثبتت كل الاجتياحات السابقة فشلها، وادت الى تعزيز مواقع ودور المقاومة فيها.
غير ان المغامرة الجديدة برأي بيريز كانت تستند الى معطيات مختلفة، في ظل تأييد امريكي مطلق، وغياب عربي، وفي ظل واقع لبناني غير متماسك.
وللمرة الثانية بدت ذاكرة بيريز ضعيفة، لان حربا كالتي خاضها ويخوضها بكل قواه واوراقه السياسية والعسكرية، افرزت موقفا مغايرا، فالتضامن العربي عاد للظهور في هذه النقطة بشكل اعاد التفاؤل الى امكانية الاعماد على موقف عربي موحد، وكذلك فان الوضع اللبناني الداخلي اظهر تماسكا اذهل الجميع سواء في لبنان او بلاد الاغتراب، وايضا فان الموقف الدولي بدا متمايزا هذه المرة، وقد برزت فيه فرنسا بشكل منافس للولايات المتحدة، اضافة الى مواقف دول اخرى، وان جاءت في المرتبة الثانية.
كل هذه المواقف اعطت المقاومة دفعا جديدا، ورسخت اقدامها اكثر: شعبيا، اقليميا ودوليا، ودخلت المعادلة السياسية في المنطقة وفي الحلول المطروحة لها من الباب الواسع.
اما الضغط الدموي الذي حاولت العملية العسكرية الاسرائيلية الجديدة فرضه على لبنان وعلى المقاومة، ارتد بدوره الى الجهة المقابلة، فالنزف الذي سال في الجنوب والبقاع وبيروت، خلق جوا شعبيا داعما حول المقاومة مما ساعدها على الرد بحرية، وعزز قاعدتها التعبوية بحيث اصبحت تشكل تيارا يصعب ايقافه ولجمه بقرارات واتفاقات عابرة.
ومما اضعف حجة بيريز في هجومه الجديد، هو انه اختار تبريرا غير مناسب، وان كانت له خلفيات سياسية معروفة وفي مقدمتها الانتخابات، ودعم قمة شرم الشيخ بمحاربة "الارهاب" فقد انطلقت الالة العسكرية الاسرائيلية تحت ذريعة حماية المستوطنات وامن المستوطنين من الكاتيوشا، بالرغم من ان الساحة الجنوبية كانت هادئة نسبيا وقت العاصفة، واذا كان بيريز وقادته العسكريون اعتبروا الرد على مقتل مدنيين في ياطر وشقرا بانه خرق لاتفاق ايار مايو 1993، فان هذا مردود عليه، لان الاتفاق اصلا ينص على ان اي اعتداء على المدنيين لدى اي طرف، يسمح للطرف الاخر بالرد فورا وبالوسائل التي يراها مناسبة، ثم ان "اسرائيل" ليست غيورة على المدنيين اللبنانيين اكثر من اهلهم.
اذن هذا يكشف بان الخطة كانت معدة سلفا، وان برنامجها السياسي والامني والاعلامي والاقتصادي والاجتماعي كان مرسوما، بدليل المسار الذي تحركت فيه والوقائع الميدانية التي وصلت اليها. والا فما معنى تفريغ الجنوب باتجاه بيروت، وما معنى قصف بيروت، وضاحيتها، وما معنى المجازر التي ارتكبت على حلقات، وما معنى الحصار البحري المحكم حول الشواطئ اللبنانية بدءا من الجنوب وصولا الى العاصمة؟
كل هذا كان يوهم البعض في البداية، بان غايته تنفيس الاحتقان الداخلي، وتلقين المقاومة الاسلامية درسا كبيرا، كما تردد على لسان بعض العسكريين الاسرائيليين لكن الغرق في الوحل اللبناني، اربك اللعبة السياسية، والامنية معا، وبدأ التخبط يرتد اعمال عنف وتهجير غير مبررة على الاطلاق، وممارسات ضد المدنيين تدينها كل المواثيق والاعراف الدولية والانسانية.
اولا: مجازر عناقيد الغضب في قانا وغيرها
كانت حصيلة العدوان الاسرائيلي على جنوب لبنان، ما بين الحادي عشر والسادس والعشرين من نيسان/ ابريل عام 1996، مائة واربعة وستين شهيدا وثلاثمائة وواحد وخمسين جريحا، سقط منهم 102 في مجزرة قانا، اما الباقون فتوزعوا كالتالي: 8 شهداء في مجزرة سحمر، 7 في مجزرة المنصورة، 3 في مجزرة الجميجمة و10 في مجزرة النبطية، وذلك حسب تقرير اوردته وكالة الصحافة الفرنسية ونشرته جريدة السفير في 27/4/1996.
وسبب الخسارة الكبرى في قانا، هو ان خمسة الاف مواطن لبناني من بلدات: قانا، جبال البطم، صديقين، رشكنانيه، حاريص، والقليلة، احتموا بخيمة القوات الفيدجية التابعة للطوارئ الدولية، ظنا منهم بان هذا الموقع سيكون بمنأى عن نيران "اسرائيل"، احتراما لعلم الامم المتحدة، غير ان هذا الرهان لم يكن موفقا، لان "اسرائيل" ـ كعادتها ـ لم تحترم المقرات الدولية، ولم تتوان لحظة في قصف تجمع النساء والاطفال والشيوخ، مع سبق اصرار، وقد كشفت الادلة والتصريحات والاعترافات الاسرائيلية، بان الهدف كان واضحا ومحددا، والغاية هي ازهاق اكبر عدد من الارواح، انتقاما لفشل العملية العسكرية الواسعة. وفي شهادات جنود وحدة البطارية المدفعية الاسرائيلية التي شاركت في قصف قانا والتي نشرتها صحيفة "كول هعير" في 10/5/96، يتبين مدى الحقد الصهيوني على العرب، فقد اجمع الجنود والضباط على ان الذين قتلوا مجرد "عرابوشيم" اي عربان، وما الضرر في قتلهم، اننا غير آسفين لذلك ولو جاءنا المزيد من الاوامر لقتلنا عددا اكبر منهم، يوجد عرب كثر، لا توجد مشكلة.
ثانيا: الخسائر المادية
اما الخسائر المادية التي امتدت من الجنوب الى العاصمة بيروت، فتراوحت حسب تقارير الامم المتحدة الى: الحاق اضرار جزئية بـ 51 بلدة في الجنوب والبقاع الغربي، واضرار متوسطة بـ 30 بلدة، واضرار كبيرة بـ 71 بلدة، واضرار فادحة بـ 17 بلدة اخرى، وذلك من اصل 159 بلدة في المنطقة.
كما ادت العمليات الى اصابة 7201 وحدة سكنية بالتدمير، منها 5718 وحدة اصابها تدمير جزئي، و1053 وحدة اصابها تدمير متوسط و430 وحة دمرت تدميرا كاملا، واصيب مستشفى بتدمير جزئي، ومستوصف بتدمير جزئي ايضا ومستوصف ثالث دمر كليا، و41 مدرسة بتدمير جزئي و15 مدرسة بتدمير متوسط، واصيب مبنى اداري بتدمير كلي، و3 مبان باضرار، واثنان بتدمير جزئي. اما دور العبادة فقد اصيب 46 منها باضرار، و12 بتدمير جزئي واثنان بتدمير كلي.
وتضررت 82 محطة كهربائية، ابرزها محطة الجمهور في بيروت، ومنها 52 محطة اصيبت باضرار جزئية، و7 بتدمير متوسط، و23 بتدمير كامل مما اشاع العتمة، واصابت الاضرار 40 بئرا ارتوازية، منها 11 باضرار محدودة، 13 بتدمير متوسط، و23 بتدمير كامل.
كما اصيب 14 جسرا، منها 2 باضرار محدودة، و2 بتدمير متوسط، و10 دمرت بالكامل، وتم تدمير خزانين كبيرين للمياه يغذيان عشرات القرى، الى جانب اصابة 20 خزانا، منها 3 اصيبت بالتدمير الكامل، و6 بتدمير جزئي، و11 باضرار جسيمة.
وافاد التقرير: ان الاعتداءات دمرت 57 خطا للمياه، و72 شبكة كهربائية، و102 شبكة هاتف، كما دمرت 124 طريقا تدميرا كاملا و237 طريقا تدميرا جزئيا.
وفي القطاع الاقتصادي، تم تدمير 99 مؤسسة صناعية وحرفية، منها 4 دمرت بالكامل، و29 دمرت تدميرا متوسطا، و66 تدميرا جزئيا، الى جانب اصابة 1420 محلا ومستودعا باضرار، منها 1240 باضرار جسيمة، و121 دمرت تدميرا متوسطا، و59 تدميرا كاملا.
كذلك تضررت 52 مزرعة، منها 11 دمرت بالكامل، واثنتان تدميرا جسيما، و39 تدميرا جزئيا، كما دمرت 377 سيارة، واصيبت 479 سيارة اخرى باضرار، وتدمير 15 جرارا واصابة 31 باضرار.
هذا الدمار، جاء حصيلة 2000 غارة شنها الطيران الحربي الاسرائيلي على الاراضي اللبنانية، اسقط خلالها اكثر من 35 الف قذيفة من مختلف العيارات المدمرة.
ثالثا: الاهداف السياسية
اذن كان العدوان متعدد الوجوه، منه سياسي، وآخر اقتصادي، وثالث امني، ورابع نفسي، اضافة الى انه كان يحمل رسائل متعددة الرؤوس والافكار ومن ابرز العناوين التي حملتها "عناقيد الغضب":
اولا: تثبيت رئيس الحكومة الاسرائيلية آنذاك شمعون بيريز على رأس ولاية جديدة، وهذا ملمح انتخابي واضح.
ثانيا: الضغط على الحكومة اللبنانية لفصل المسار اللبناني عن المسار السوري، تمهيدا للاستفراد بلبنان من جهة لاملاء الشروط عليه، وتطويق سوريا من جهة اخرى، وفرض حصار صعب عليها، ورفض التراجع عن الجولان حتى حدود الرابع من حزيران/ يونيو 67.
ثالثا: ضرب المقاومة، وتجريدها من سلاحها، وملاحقة قيادات "حزب الله" والاقتصاص منهم.
رابعا: خلق شرخ بين المقاومة والشعب اللبناني، وبين المقاومة والحكومة اللبنانية.
خامسا: ارباك الساحة الداخلية اللبنانية، من خلال نعرات طائفية، واعادة احياء دور القوى المرتبطة باسرائيل للعب دور بارز مجددا.
سادسا: افراغ الجنوب من سكانه، لتتم السيطرة عليه، واقتطاع اجزاء من ارضه، وسرقة مياهه.
سابعا: تدمير البنى الاقتصادية اللبنانية، التي اصبحت جاهزة للمنافسة، ومنع الاستثمار الاجنبي والعربي والوطني في بيروت.
ثامنا: ابعاد ايران عن لعب دور في الصراع العربي ـ الاسرائيلي، او على الاقل اضعاف هذا الدور.
رابعا: على المستوى العسكري
وعلى الصعيد العسكري، كانت فرصة لسلاح الطيران الحربي اكتساب تمرين "حقيقي" كما قال المراسل الحربي لصحيفة "يديعوت احرونوت"، اليكس فيشر، وقد اقحم بهذه التمارين اعداد من الطيارين الشبان لتجاوز الخوف في اول مهمة قصف يقومون بها، اما الرجال المكلفون بتنفيذ عمليات اكثر تعقيدا فقد استفادوا بدورهم من تعليم اضافي، وقد صنف العسكريون الاسرائيليون "عناقيد الغضب" بانها جاءت في سياق الاهداف الاستراتيجية الاقليمية لـ"اسرائيل".
وقد استخدمت "اسرائيل" في عملياتها خلال ايام العدوان، احدث التقنيات العسكرية، والمخصوصة للقرن المقبل، ففي الجو استعملت المقاتلة الاميركية الحديثة "اف ـ 15 سترايك ايغكل"، والمقاتلة "اف ـ 16" و "اف ـ 4 فانتوم"، كما استخدمت احدث طوافاتها "اباتشي" و "كوبرا"، بالاضافة الى طائرات التجسس من نوع "اواكس" و"ام.ك".
وعلى الصعيد البري، استخدمت دبابات "ميركافا ـ 3" التي تعمل على الفيديو، وتستخدم اللايزر والقنابل الذكية، واستخدمت كذلك احدث المدافع والصواريخ والتقنيات الالكترونية والعاملة على اشعة اللايزر، والاسلحة الرشاشة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة.
وفي المجال البحري، استعملت احدث البوارج والقطع من فئة "ساغر" التي قصفت الطرق الساحلية، ومنعت وصول الامدادات الغدائية والطبية الى المواطنين المحاصرين، كما استخدمت الاسلحة المحرمة دوليا كالقنابل الفوسفورية، والعنقودية والانشطارية، وقنابل النابالم.
خامسا: النتائج
كل وسائل الدمار والفتك هذه، لم تستطع تحقيق اهداف العدوان العسكري، بل على عكس كل الحسابات والتوقعات الاسرائيلية فان عناقيد الغضب ادت الى:
1- خسارة بيريز لمنصبه، وفشله في الانتخابات، وسقوطه في فخ نصبه له بعض القادة العسكريين الاسرائيليين.
2- تعزيز موقع المقاومة ودورها، فقد تحول التعاطف الشعبي مع المقاومين الى شيء يشبه الاسطورة، مما اعتبره المراقبون قفزة نوعية للمقاومة.
3- عزز العدوان الوحدة الداخلية اللبنانية، حيث فتحت كل المناطق اللبنانية ابوابها للنازحين، وقدمت لهم المساعدات، ووقفت الى جانبهم، مؤكدة تلاحمها معهم.
4- ايجاد حركة سياسية ودبلوماسية ناشطة، تأييدا للبنان، ودعم سيادته واستقلاله.
5- تمتين وحدة المسارين اللبناني والسوري.
6- دعم لبنان ماليا واقتصاديا ومعنويا واعلاميا، عربيا ودوليا.
7- تمكن لبنان من خلق رأي عام عالمي مساند وضاغط على "اسرائيل" لتطبيق القرارات الدولية، ومنها القرار 425، القاضي بالانسحاب الاسرائيلي من الجنوب والبقاع الغربي فورا، ومن دون قيد او شرط.
سادسا: اتفاق نيسان/ ابريل
وقد كرس هذا العدوان "تفاهم نيسان/ ابريل" في 26/4/1996، وهو الاتفاق الخطي الوحيد المعقود بين "اسرائيل" ولبنان بمشاركة سوريا، وتوقيع كل من الولايات المتحدة وفرنسا، وذلك بعد اتفاق الهدنة الموقع في العام 1949، وهو ينص على حماية السكان المدنيين على جانبي الحدود، الامر الذي لجم يد "اسرائيل" من التمادي في اعتداءاتها، لان المقاومة قررت استخدام صواريخ الكاتيوشا ضد المستوطنات كلما حدث عدوان على المدنيين اللبنانيين، وضمن هذا الاتفاق مشاركة فرنسية فاعلة رغم الاعتراضات الاسرائيلية. واقر هذا التفاهم حق الدفاع عن النفس، ولم يقيد حركة المقاومة، بل شرعها، وقد سمح "تفاهم ابريل" للحكومة اللبنانية من استخدام هذا القرار مرجعا قانونيا، خلافا لاتفاق العام 1993 الذي لم يشر الى دور الدولة اللبنانية لا من قريب ولا من بعيد.
وبعد توقيع هذا التفاهم، حاولت "اسرائيل" التفلت من الاتفاق او تعديله، ولما فشلت عادت قسرا جراء مجابتها بمقاومة قاسية، الا ان الكثيرين من المراقبين، يرون ان مقدمات النصر في الجنوب اللبناني الذي تحقق في 25 ايار 2000، ارتسمت مقدمته في ملحمة نيسان 1996.