وتحقق الأمل بهذه المحاكمة، حتى لو لم يكن لأحكامها الأثر المبرم، كما كانت محاكمات نورمبروغ، مثلاً، حين أقام اتحاد المحامين العرب محاكمة دولية لمجرمي الحرب: الرئيس الأميركي جورج بوش (الابن)، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ووزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون، في الثالث والرابع من شباط/ فبراير ,2006 وترأس المحاكمة التي جرت فعالياتها في مقر اتحاد المحامين المصريين بالقاهرة رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد، الذي فرضت شخصيته القوية الهادئة، وثقافته الواسعة، ومتابعته الدقيقة لكل كلمة، جواً من الهيبة والوقار أعاد إلى الجمهور المحتشد في القاعة الثقة بقدرة الإنسان المقهور المضطهد على أن يجد مكاناً له تحت الشمس؛ وكان من أبرز المحامين في فريق الادعاء المحامي المغربي خالد السفياني (الأمين العام للمؤتمر القومي العربي لاحقاً)، أمّا مهمة الدفاع فقام بها المحامي المصري عبد العظيم المغربي، نائب الأمين العام لاتحاد المحامين العرب، الذي أبدع في الدفاع القانوني الذي لا بد منه، غير أن أصابع الاتهام كانت جلية بين كلماته. وغني عن القول بأن شهادات الشهود الذين جاؤوا من أقطار عربية وغربية متعددة تميزت بتنوعها ودقتها، وأن الحكم النهائي صدر بالإدانة.
في الأعوام الأخيرة حصل التطور الأكثر أهمية على الصعيد المحلي، فقد تحولت أرض المجزرة المهملة إلى مزار تحيط به الأشجار والورود. ولم يكن التطور مفاجئاً، فمن حسن حظ منطقة شاتيلا أنها تقع في نطاق بلدية الغبيري، وهي البلدية التي أخذت على عاتقها الحفاظ على "المقبرة الجماعية" وتحويلها إلى مزار يقصده الزائرون. هذا ما وعد به رئيس البلدية، محمد سعيد الخنساء، وأعضاء المجلس البلدي، وهذا ما وفوا به. ولعلها كانت أول بادرة وفاء للضحايا من جهة لبنانية مسؤولة.
بعد عشرين سنة من الأيام الدامية الثلاثة كنت قد استكملت كتابة الفصول وإعداد الملاحق لكتابي: "صبرا وشاتيلا: أيلول 1982"، وقامت بنشره "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، بالعربية، سنة ,2003 و"بلوتو برس"، بالإنكليزية، سنة .2004 وإني لأعترف بأنه ما كان ممكناً لي أن أتصور طوال الأعوام السابقة بأن الكتاب سوف يُنجز، وبأن الحلم سوف يتحقق، وبأن الكتاب سوف يصدر. وما زالت ليالي الأرق، والعقبات التي ليس سهلاً إحصاؤها، تلاحقني. والكتاب يجمع بين نهج التاريخ الشفهي ونهج الدراسة الميدانية والإحصائية، لكنه لعل من أهم ما تضمنته لوائح الأسماء التي تنشر لأول مرة، وهي تستند إلى سبع عشرة لائحة تنتمي إلى ثلاثة أنماط من اللوائح: اللوائح التي تم جمعها مباشرة على أرض المجزرة أو في المقابر؛ اللوائح التي جمعت في الأشهر التي تلت المجزرة؛ اللوائح من مصادر رسمية ودراسات ولجان قضائية حتى نهاية القرن العشرين؛ وقد بلغ مجموع الضحايا بالأسماء الموثقة 906 ضحايا، و484 مخطوفاً ومفقوداً. وهكذا، بلغ مجموع الأسماء 1390 اسماً لضحايا شهداء، ولمخطوفين لم يعد منهم أحد، ولمفقودين لم يُعثر على أحد منهم. وهذا رقم يفوق إلى حد الضعف تقريباً الرقم التقديري الذي تبناه تقرير كاهان استناداً إلى معلومات الجيش الإسرائيلي، وهو ما بين 700 و800 ضحية.
أمّا العدد التقديري فتوصلتُ إليه من خلال أكثر من منهج إحصائي وتحليلي، كان أبرزها التقدير العام لأعداد الضحايا استناداً إلى الأعداد المتداولة للذين دفنوا في المدافن، أو في القبور الجماعية، أو في حفر الموت، أو للذين قضوا تحت الأنقاض، وقد تم التوصل إلى أن الحد الأدنى للضحايا هو 3500 ضحية.
أمّا بالنسبة إلى ما جاء في "تقرير كاهان" بأن عدد النساء كان 15 أنثى فقط، فقد أثبتت الدراسة الميدانية أن عدد النساء كان أكثر من ربع الضحايا، كما أثبتت لائحة الأسماء الموحدة من مختلف المصادر وجود أكثر من مئتي أنثى، والعدد تحديداً .201 أمّا بالنسبة إلى عدد الأطفال الذين اكتفى تقرير كاهان بأنه 20 طفلاً فقط، فقد أثبتت الدراسة الميدانية أن عدد الضحايا الأجنة التي لم تولد بعد، وعدد الضحايا الأطفال ما بين العام الأول والثاني عشر، بلغ 95 ضحية من 430 ضحية، أي بنسبة 23٪ من مجموع الضحايا.
صحيح أن مرتكبي "صبرا وشاتيلا" نجحوا في قتل السكان، لكنهم فشلوا في قتل الإنسان.
تواصلت ذكرى "صبرا وشاتيلا" مع الضحايا الأحياء، وما عاد هؤلاء يؤدون دور الراوي للحدث، أصبحوا هم الحدث، هم الصلة، هم الهدف، وأصبح لكل منهم حكاية عمرها اليوم خمسة وعشرون عاماً.
من حكايات هؤلاء أتوقف عند حكاية الفتى منير، ابن الثانية عشرة، يوم حدث ما حدث.
كان منير مع أمه وأخواته وإخوته في ملجأ أبو ياسر، وقد قتلوا جميعاً، قتلت أمه زهرة وأخواته عايدة وفادية وإيمان وأخوه معين في العراء قرب محطة البنزين، في الليلة الأولى، وقتل أخوه الجريح مفيد في صباح يوم الجمعة، في مستشفى عكا؛ أمّا هو، فوحده نجا من الموت بعد أن حاولوا قتله ثلاث مرات، فالله سبحانه وتعالى أراد له الحياة.
قابلته أول مرة بعد ثمانية أشهر من المأساة. لم يجبني منير عن سؤال واحد. كنت أعرف مأساته لكثرة ما تحدثت الصحف والناس عنها، ولو فكرت لحظة بعدد المقابلات الصحفية التي تكلم فيها منير أو التي لم يتكلم فيها، كهذه، لما طلبت الحديث معه. أمّا في ذلك اليوم فعرفت تفصيلات أكثر من الجار الذي رافقه، عرفت كيف كان على منير أن يتظاهر بالموت حتى يعيش، وكيف بقي طوال الليل إلى جانب أمه وهو لا يعلم يقيناً أنها رحلت عنه إلى الأبد، كما لا يعلم إن كان سوف يتمكن من الهروب في اليوم التالي.
أجابني منير عن السؤال الأخير فقط، وكان السؤال عنه حين يكبر: هل سينتقم؟ أم يعفو؟ أم ماذا؟ قال بصوت عال جريء:
"لأ. لأ. أنا ما ممكن أنتقم بقتل الأطفال زي ما قتلونا. شو ذنبهم الأطفال؟"
يوم قابلت الطبيب البريطاني بول موريس، في ربيع ,1983 وهو من أطباء مستشفى غزة، قال: "منير كان يبتسم قليلاً أحياناً، ويلعب الفوتبول أحياناً، لكنه لا يستجيب بعفوية كما يستجيب من هم في عمره، إلاّ أحياناً أيضاً". ثم ضرب الطبيب بيده على الطاولة: "يجب أن يُنقذ الفتى. يجب أن يخرج من المنطقة ولو إلى حين، حتى يسترد نفسه". وغادر منير المنطقة فعلاً بعيداً حتى الولايات المتحدة، بمساعدة الممرضة الأمريكية إلين سيغل، وغادر معه شقيقه الأكبر نبيل، وهما الناجيان الوحيدان من أسرة أحمد موسى محمد.
قابلت منير للمرة الثانية في نيو جرسي بعد خمسة أعوام، وكان أصبح شاباً مفتول العضلات، وصاحب ابتسامة حلوة؛ وقابلته في نهاية القرن العشرين، في واشنطن، وكان أصبح رجلاً يعارك الحياة وتعاركه؛ ثم في لبنان في أيلول ,2000 ورحنا معاً نمشي على شارع شاتيلا الرئيسي، حيث مشى آخر مرة مع أمه وأخواته وإخوته والعشرات من النساء والأولاد.
لمّا وصلنا بالقرب من ساحة المقبرة الجماعية، مقبرة شهداء صبرا وشاتيلا، تكلم منير بصوت منخفض متقطع وهو مستمر في مشيته، تكلم من تلقاء نفسه، تكلم عن موضوعين ما كان سهلاً التوصل إليهما من شهود عيان طوال تلك السنين، تكلم عن اغتصاب الفتيات، وعن سقوط قتلى بين المهاجِمين القتلة. راح يقول:
"بعد ما رمونا بالرصاص، كنا كلنا على الأرض، وكانوا همي يروحو وييجوا، وكانوا يقولوا: "إذا في أي حدا منكم بعده عايش نحنا عنا شفقة ورحمة ومناخذو على المستشفى، قولولنا، ما تخبوا".
وبس كانت واحدة تئن، أو تصدقهم وتقول أنا بدي إسعاف، كانوا يسعفوها بطلقات نار ويخلصوا عليها.
أنا... أنا أكثر شي ضايقني مش بس الموت من حولي. أنا... كنت مش عارف إذا إمي ماتت أكيد، وإذا أخواتي ماتوا أكيد، كنت عارف إنو معظم الناس من حواليي ماتوا. وصحيح، أنا نفسي كنت خايف أموت. لكن... أنا ضايقني كتير إنهم كانوا يضحكوا ويسكروا ويتسلوا كل الليل. رموا علينا بطانيات وتركونا للصبح. وكل الليل كنت أسمع أصوات بنات يبكوا ويصرخوا: "منشان الله اتركونا بحالنا". يعني... ما فيني اتذكر قديش اغتصبوا بنات. أنا اصوات البنات من الخوف والوجع، ما بعمري فيني أنساه...
... هلق تذكرت ونحنا عم نمشي من هون. أنا كنت عدّيت تلات أربع عناصر من المسلحين اللي هاجمونا... ماتوا؟ يمكن... وهلّق بتذكر منيح كيف واحد من اللّي كانوا عم يأمرونا، راح صرخ على رفيقه الواقف عل العالي: "دخلك يا روبير ما تقوّص من عندك، يمكن تيجي الرصاصة فينا نحنا. في تلاتة من رفقاتنا سقطوا".
منير، لمّا أراد العودة إلى مقاعد الدراسة للتخصص، كان أفضل حظاً من غيره بكثير، ذلك أنه ما إن علم الرئيس ياسر عرفات بالأمر، حتى وقّع حالاً على صرف كل ما يلزم لدراسته؛ غير أنه لم يصرف شيء ولم يحقق أمنيته، فالدراسة بحاجة إلى التركيز والانصراف الكلي، ذهنياً ونفسياً، وهذا ما سلبته منه ذكريات الماضي.
اليوم ما زال منير في واشنطن، وهو متزوج من سعاد، المغربية الجميلة الرقيقة، غير أن منير يعاني في أعماقه كما يعاني كل من شهدَ، وشاهدَ، ولم يستشهدْ في "صبرا وشاتيلا". فهل يصل الطب الحديث بأدويته إلى العلاج الشافي؟
يكفي عذاباً لأطفال المجازر أنهم عندما يكبرون يعيشون غرباء عن كل ما حولهم، وأينما توجهوا. هم أصحاب تجربة فريدة علمتهم درساً قاسياً وهو أن السيد الأكبر المطاع: مستقبل مجهول.
هذه السنة، في أيلول/ سبتمبر ,2007 يغيب وجه المناضل الكبير ستيفانو شياريني عن الاحتفال بذكرى "صبرا وشاتيلا"، بعد أن اختطفه ملاك الموت فجأة، في الثالث من شباط/ فبراير ,2007 وهو بين أسرته ومحبيه في مدينته التاريخية روما، وكان ممكناً أن يوافيه الأجل إمّا في الطائرة.. أو في بغداد.. أو في شاتيلا.. فهكذا عاش أعوامه الأخيرة.
لولا هذا الإنسان الكبير القلب، لما داعب الأمل الضحايا الأحياء بأنهم حقاً سوف يعودون إلى الحياة. اليوم بعد خمسة وعشرين عاماً، ما زالت صبرا وشاتيلا تعاني، وتنتظر، وتحلم، وتستقبل الأصدقاء؛ ومن الأصدقاء الجدد المخرجة ديبي فاندن دنجن القادمة من فان كوفر الكندية، والتي تقوم بإخراج فيلم وثائقي عن "صبرا وشاتيلا" من خلال شهادة الممرضة إلين سيغل التي عاشت جرح صبرا وشاتيلا، وهي لمّا سألتها في إحدى رسائلي عمّا تعنيه "صبرا وشاتيلا" بالنسبة إليها، أجابتني من واشنطن في اليوم نفسه، عبر البريد الإلكتروني، وكانت رسالتها في الأول من تموز/ يوليو 2007:
"أنا أمازح الأصدقاء بقولي إن "صبرا وشاتيلا" مهنتي.
"إنها شيء يبقى معي دائماً. ومن واجبي أن أحيي باستمرار حكاية المجزرة، ومحنة الفلسطينيين الأحياء. ويجب أن أعمل على تذكير الناس بدور إسرائيل.
"في كل ذكرى سنوية أقوم بتذكير المؤسسات بهذا التاريخ 16 أيلول 1982، إمّا للتوقف دقيقة صمت، وإما لمشاهدة فيلم... وفي يوم الغفران (يوم كيبور) أتلو صلاة خاصة داخل الكنيس من أجل الذين ماتوا... أنا أرى صبرا وشاتيلا أرضاً مقدسة، وأراها بقعة على هذه الأرض تتميز بخصوصية فائقة. إنها مكان يجعل المرء الذي يولد فيها يعتز لكونه قد ولد فيها. أنا عندما يشير إليّ الناس أقول لهم بأن هذه ليـست حكايتي، بل حكاية الذين استشهدوا، والذين بقوا أحياء".
في تاريخ المجازر يتكلم الموت أولاً، ثم يتكلم القتيل، ثم يتكلم القاتل.
لقد تكلم الموت، وتكلم القتيل. وتكلم الشهود.
وما زال الضحايا الأحياء ينتظرون القاتل كي يتكلم.