ففي السادس عشر من ايلول من العام 1982، ووفقاً للوقائع الموثقة حاصرت ميليشيا "الكتائب" و"القوات" اللبنانية بغطاء من جيش الاحتلال الاسرائيلي بقيادة ارئيل شارون ورافائيل أيتان مخيمي صبرا وشاتيلا، حيث دخلت تلك المجموعات الى المخيم تحت جنح الظلام لتصفية أهله العزل والتنكيل بالجثث ورميها في الطرقات وأمام ابواب المنازل بهدف ترويع الاطفال، ومن ثم دخلت بعدها الجرافات الإسرائيلية وقامت بجرف المخيم وهدم المنازل.
وننشر هنا شهادة لأحد عناصر الميليشيات التي ارتكبت مجازر صبرا وشاتيلا، عرضتها مجلة ديرشبيغل الألمانية (14/2/1983) حيث قال "التقينا في وادي شحرور الواقعة جنوب شرقي بيروت نهار الأربعاء في 15 كانون الأول. لعدة أيام خلت قائدنا بشير الجميل الذي أصبح ضحية الجريمة، كنا نحو 300 رجل من بيروت الشرقية ومن جنوب لبنان وجبال عكار في الشمال. معظمنا أعضاء في حزب الكتائب وكنا نرتدي الزي العسكري بما فينا المنتمون إلى حزب الأحرار مثلي التابع للرئيس السابق كميل شمعون (ميليشيا النمور)"، وأضاف "تجمعنا في المكان المذكور مسؤولون في حزب الكتائب أوضحوا لنا ان وجودنا هنا من أجل عملية خاصة: حضرتم بملء إرادتكم لتثأروا للجريمة البشعة بحق بشير الجميل، أنتم أداة الله، كل منكم منتقم".
وتابع العنصر بالقول "عُبّئنا بشكل جيد. من جهتي كان هذا صحيحاً وجيداً. ففي سنة 1976 عندما دخل الفلسطينيون إلى الدامور قُتل اثنان من أشقائي وخلال الحديث مع رفاقي تبين لي ان معظمهم خسروا بعض أقاربهم أيضاً"، وأوضح "بعدها حضر نحو اثني عشر اسرائيلياً بالزي الأخضر ولكن بدون أية علامة تشير إلى رتبهم، يحملون الخرائط ويتكلمون العربية بشكل جيد عدا الحرف (ح) حيث كانوا يلفظونه (خ) كسائر اليهود ـ تحدثوا عن مخيمات الفلسطينيين وبالتحديد مخيمي صبرا وشاتيلا، وبقينا لساعات ندرس الخرائط، بالنسبة لنا كنا نعتبر ان هذا مضيعة للوقت لأننا ندرك طبيعة العمل الموكل إلينا وننتظر تحقيقه".
ولفت العنصر إلى أن "مسؤولينا أبلغونا بالواجب المشرّف ألا وهو تحرير لبنان من آخر أعدائه، يجب دخول المخيمات واعتقال كل رجل يستطيع أن يقاتل وقد كنا جداً فخورين"، وأضاف "وعند ظهر اليوم التالي اجتمعنا لأداء القسم بعدم البوح لأي كان بظروف وملابسات هذه العملية.وحوالى الساعة الثانية والعشرين (العاشرة ليلاً) أقلتنا شاحنات عسكرية أميركية قدمها لنا الاسرائيليون".
وقال "انتقلنا إلى مستديرة المطار حيث كان هناك عدد كبير من الشاحنات متوقفاً بالقرب من المواقع الاسرائيلية لنقل المعتقلين. بعض الاسرائيليين بلباس الكتائب اللبنانية التحقوا بمجموعاتنا، مسؤولونا شرحوا لنا أن أصدقاءنا الاسرائيليين هؤلاء هم أيضاً متطوعون ولم يعلموا جيشهم بذلك، وسوف يكونون خير عون لكم في عمليتكم. وأوضح لنا المسؤولون انه من الأفضل عدم استخدام الأسلحة «معكم فقط ثلاث ساعات ويجب ان يكون كل شيء قد انتهى، ولكن بهدوء وصمت".
وأضاف "أحد مسؤولي الكتائب بقي للاتصال المباشر مع الاسرائيليين على مداخل المخيمات.أحد المقنعين قادنا من فوق حاجز ترابي بالقرب من السفارة الكويتية. "إقفز" همس من خلفي، بالقرب من الحائط الترابي هناك كوخ صغير، فتحنا الباب عنوة. كان بالداخل رجل مُسنّ وزوجته وولدان بسن الخامسة عشرة والسادسة عشرة يستمعون للراديو، أوقفناهم تحت السلاح وبدأنا التفتيش عن أسلحة، أحد الأولاد صرخ بنا كلاب اليهود، ظنّ نفسه شجاعاً هذا الملعون. واحد منا أدخل حربته في قلبه. كان عملاً سريعاً وهادئاً مثلما أُمرنا".
وتابع سرد تجربته بالقول "لكن لم نستطع تحاشي صراخ العجوزين والولد الآخر، تعجبنا من صراخهم رغم أننا لم نقم بأي عمل يؤذيهم، جرهم رفاقنا إلى الخارج باتجاه الشاحنات المنتظرة، لكن لا أدري إذا كانوا قد وصلوا. بعدها التقينا بعض الرفاق الذين امتثلوا ايضاً للأوامر بعدم اطلاق النار، حيث استخدموا بدل الرصاص الحراب والسكاكين، جثث مضرجة بالدماء ملقاة في الشوارع وعلى مداخل البيوت، لكن صراخ وبكاء النساء المجانين كاد يفضح سرية عملنا، وهذا الصراخ كان بمثابة الإنذار لباقي سكان المخيم".
وقال "فجأة أطلق نار، بعض الأولاد من الفلسطينيين المسلحين تمركزوا في شمال مخيم شاتيلا وأطلقوا علينا النار، كما انهم استخدموا البازوكا، أحد رفاقي فقد ذراعه اليسرى، اضطررنا للتراجع لأنه لا مجال لإنهاء هذه العملية خلال ثلاث ساعات، مرة أخرى التقيت المستشارين الاسرائيليين الذين سبق والتقيتهم في اجتماعنا السري، أحدهم يستعمل جهاز (الووكي توكي). أعادنا إلى مدخل المخيم. دقائق معدودة بعد ذلك بدأت المدفعية الاسرائيلية بقصف شديد ومركز على المخيم المتمرد".
وأوضح أنه "بعدها تقدمنا مجدداً إلى المخيم حيث حصلنا على مساعدة الاسرائيليين الذين أناروا المنطقة بالقنابل المضيئة لتحديد الصديق من العدو، مشاهد مروعة أخذت تظهر مدى مقدرة الفلسطينيين. بعض المسلحين اختبأوا خلف بعض الحمير في طريق ضيق شمال المخيم، ولسوء الحظ اضطررنا لاطلاق النار على هذه الحيوانات المسكينة كي نستطيع قتل الفلسطينيين المختبئين خلفها. لقد تأذت مشاعري عند سماع صراخ هذه الحيوانات الجريحة (...)".
وأشار العنصر إلى أنه "في الرابعة صباحاً عادت مجموعاتنا إلى الشاحنات، يبدو حتى الآن أنه لم تستعمل سوى شاحنة واحدة، توجهنا للحدث لأخذ قسط من الراحة، وعند الفجر عدنا للمخيم. مررنا بجثث متناثرة وأخرى مُكومة بعضها مقتول بالرصاص والبعض الآخر مطعون بالحراب. كلهم شهود. ماذا نستطيع ان نفعل عدا ذلك لقتل المزيد. ذلك هيّن بعد ان تكون قد قمت بمثل هذا العمل سابقاً.
الآن أول جرافة (بلدوزر) اسرائيلية وصلت. أحرقوا الأرض، لا تتركوا أي شاهد حي، اعملوا كل شيء بسرعة» هكذا كانت أوامر قادتنا، لكني تساءلت هل نستطيع ان نقوم بكل هذا العمل بسرعة".
وختم بالقول "لا يزال هناك عدد كبير من الناس يتراكض كما كان هناك اطلاق الرصاص في جميع الاتجاهات، كان الناس يدافعون عن أنفسهم بالركض وقلب كل شيء في الطرقات، "حرث الأرض لم يعد ممكناً" لقد ثأرنا لضحايانا في الحرب الأهلية.
من ليلة الجمعة حتى السبت لاحظنا أن عمليتنا لم تعط النتائج المرجوة حيث آلاف الفلسطينيين استطاعوا الهرب ـ أي أن عدداً كبيراً من أعدائنا الفلسطينيين لا يزال حياً (...)".
المسؤولية الإسرائيلية
وفي أول بيان رسمي للحكومة الإسرائيلية برئاسة مناحم بيغن حول مجزرة القرن العشرين، في صبرا وشاتيلا، ظهرت الغطرسة الصهيونية / البيغنية بأبشع صورها، إذ لم يكن هناك نفي قاطع لمسؤولية الحكومة الإسرائيلية فحسب، بل كان ما هو أسوأ، فالبيان ما احتوى إلا على افتراءات وأخطاء فادحة. كان واضحاً أن "إسرائيل" تصورت أن العالم سوف يصدقها ـ كما هي العادة ـ مهما ادعت أو تبجحت، لكنها لم تنجح هذه المرة.
تحقيقات لجنة "كاهان"
أما في 1 نوفمبر 1982، فقد أمرت الحكومة الإسرائيلية المحكمة العليا بتشكيل لجنة تحقيق خاصة، وقرر رئيس المحكمة العليا، إسحاق كاهـَن، أن يرأس اللجنة بنفسه، حيث سميت "لجنة كاهن"، الا أن ما احتواه تقرير كاهان من معلومات مغرضة خاطئة، ونتائج خاطئة بُنيت معظمها على معطيات لا تمت إلى الحقيقة والواقع بصلة.
وكانت التوصية النهائية التي خرجت بها لجنة كاهان هي أن "يُعفى شارون من منصب وزير "الدفاع"، وأن ينظر رئيس الوزراء آنذاك في إقالته من وظيفته، إذا اقتضت الضرورة".
احياء ذكرى المجزرة دولياً
وبين مجزرة صبرا وشاتيلا في 16/9/1982 والذكرى الخمسين للنكبة في 15/5/1998 مرت سنوات كثيرة من دون أن يتمكن ذوو الشهداء من إحياء هذه الذكرى أو زيارة مدافن ضحاياهم، الا أن هذه الذكرى بقيت مشتعلة في الحياة اليومية للفلسطينيين في لبنان، ففي سنة 1999 جاء إلى لبنان الصحافي الإيطالي المعروف ستيفانو كياريني وكان آنذاك مسؤولا عن شؤون الشرق الأوسط في جريدة " المانيفستو" اليسارية، وجال في مخيم شاتيلا والتقى أهالي الضحايا، وزار مقبرة الشهداء، وجراء ما شاهده ستيفانو كياريني تبلورت لديه فكرة تأسيس لجنة أوروبية دائمة لنصرة شعب فلسطين. وهكذا ظهرت لجنة "كي لا ننسى صبرا وشاتيلا" في إيطاليا التي أخذت على عاتقها تنظيم حملة سنوية إلى لبنان لإحياء هذه الذكرى.
وابتداء من 13/9/2000 بدأت الوفود الأوروبية تتقاطر إلى لبنان سنوياً، وفي التاريخ نفسه، لإبقاء الشعلة متقدة. وكان يقود الحملة ستيفانو كياريني، وتحولت هذه الذكرى إلى مناسبة وطنية، وإلى شكل حيوي من أشكال التضامن الدولي مع قضية فلسطين. ثم توسعت الحملة لتضم إليها، علاوة على الإيطاليين، إسبانيين وفرنسيين وفنلنديين وأميركيين وبريطانيين وماليزيين وباكستانيين. واتسع نطاق الجولة السنوية في لبنان ليشمل بلدة قانا الجنوبية وسجن الخيام وبوابة فاطمة ومتحف مليتا وموقع مارون الراس، فضلاً عن مخيم البرج الشمالي حيث وقعت مجزرة نادي الحولة ومجزرة روضة النجدة الاجتماعية في سنة 1982، والتي لم يكشف اللثام عنهما إلا لاحقا.
واذا كان مرور الزمن يعفي مفتعلي الاحداث في الحرب اللبنانية التي امتدت منذ العام 1975 حتى العام 1990 فان مجزرة صبرا وشاتيلا تبقى شاهدا حيا على تاريخ المليشيات المتعاملة مع العدو وقادتها ممن ارتكبوا المجازر الدموية في لبنان ولا يمكن ادراجها في اطار مقولة عفا الله عما مضى سيما وان من تلطخت يداه بدماء الاطفال والنساء الابرياء لن يمحي الزمن مهما طال.. افعاله الجرمية.