ترجمة وإعداد: ميساء شديد
كتب نضال حمد "في الطريق من مكان إصابته إلى المستشفى، رأى ملائكة اليمين
والشمال، الذين حرسوه طفلاً صغيراً وهم على جانبي الطريق يمسحون دموعهم
بمناديل بيضاء. لم يكن يدري أن الطريق إلى مستشفى غزة أصعب من الطريق إلى
جهنم. كانت طوابير اللاجئين الفارين من المذبحة تلوذ بالمستشفى هرباً من
بطش وإرهاب وإجرام القتلة. لم يترك الجزارون أسلوباً للقتل إلا واستعملوه".
وداخل غرفة العمليات في المستشفى "كانت هناك تنقذ الجرحى من الموت المحتم،
لم تتمكن من إنقاذهم كلهم لكنها أنقذت حياة كثيرين".
ثم عادت إلى بلادها وهناك كتبت "من بيروت إلى القدس". إنها الطبيبة سوي شاي أنغ، مواطنة بريطانية من سنغافورة شاء القدر أن تكون الطبيبة الوحيدة في مستشفى غزة يوم وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا.
قبل الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 تقول "لم اكن أعلم أن المخيمات موجودة، وكمسيحية كنت أؤيد اسرائيل وأكره العرب وكنت أرى في منظمة التحرير الفلسطينية حركة إرهابية مكروهة ويخاف منها". ومن لندن حيث كانت تتابع الصور التي ينقلها التلفاز عن قصف الطيران الإسرائيلي لبيروت بدأت الرؤية تتغير لديها وكان القرار بترك بلاد الضباب باتجاه بيروت ملبية نداء الصليب الأحمر الدولي الذي طلب أطباء متخصصين في جراحة العظام لمعالجة ضحايا الحرب في لبنان.
قرار سو في تلك اللحظة قادها إلى مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين حيث انضمت الى الهلال الأحمر الفلسطيني، وهناك كانت واحدة من الشهود على أبشع المجازر التي تشارك الصهاينة والقوات اللبنانية بتنفيذها بدم بارد.
وكي لا ننسى صبرا وشاتيلا نعود في الذكرى التاسعة والعشرين للمجزرة إلى ما
تعرضه هذه الطبيبة الآسيوية من صور وشهادات في كتابها "من بيروت الى القدس"
والذي يعتبر واحداً من الكتب القيمة التي أرّخت لمجزرة لا تزال حتى اليوم
"مجزرة العصر".
في مقدمة عرضها لشهادتها حول صبرا وشاتيلا تتحدث سو عن الاجتياح الإسرائيلي
للبنان وقتله لآلاف المدنيين، كما عن حصار بيروت الذي دام سبعين يوماً وعن
انقطاع الكهرباء والماء والغذاء. أما الثمن الذي طلبته "اسرائيل" لوقف
تدميرها لبيروت فهو مغادرة 14000 مقاتل فلسطيني من منظمة التحرير
الفلسطينية للمدينة تاركين خلفهم عائلاتهم. عن هذا تقول سو في كتابها
"14000 رجل فلسطيني أجبروا على مغادرة لبنان ما يعني ان 14000 عائلة
تشرذمت، لأن كل عائلة أجبرت على التخلي عن اب أو ابن أو شخص قريب، فيما
بقيت النساء والأطفال والعجائز، وفي مكان كالشرق الأوسط يعد ذلك بمثابة
الكارثة".
آنذاك تتابع سو في كتابها "كان الاتفاق يقضي بضمان حماية الفلسطينيين الذين
لم يغادروا المخيمات، لكن بعد 3 أسابيع على مغادرة منظمة التحرير أعطي
الضوء الأخضر لإسرائيل لاجتياح بيروت الغربية وقتل الفلسطينيين في
المخيمات. أما التنفيذ فللقوات، الميليشيا المسلحة التابعة للكتائب والتي
تدرب عناصرها على أيدي الإسرائيليين. وبحسب شهود عيان ممن بقوا على قيد
الحياة فإن الجنود الإسرائيليين و"المرتزقة" التابعين لهم من ميليشيا
الكتائب تشاركوا في عمليات القتل والذبح.
تقول سو في كتابها "إن أول المصابين الذين وصلوا الى المستشفى كان امرأة وقد أصيبت في رجلها أثناء ذهابها للحصول على الماء".
ومن ثم توالى وصول المصابين الذين استهدفوا في منازلهم، بعضهم توفي قبل
إسعافه، "هؤلاء ليسوا إرهابيين" تؤكد سو التي تقول عن الرجل في الصورة
أدناها "هذا الرجل المسن كان يقطن بالقرب من المستشفى، كنت أعرفه جيداً،
لقد قتلوه".
وتتابع الطبيبة البريطانية تعليقها على صورة هذا الطفل قائلة "اطفال كثيرون كهذا الطفل كانوا يقتلون دون أي سبب".
في مسرح الأحداث، والكلام دائماً لسو شاي آنغ في كتابها "من بيروت الى القدس" عالجت امرأة وطفلاً واجريت لهما عمليتين جراحيتين. في غرفة العناية الفائقة ذكّرت الممرضات بضرورة نقل دم لهما. أبلغتني احدى الممرضات أن وحدة الدم التي بدأوا بإعطائها للمرأة كانت الأخيرة. كلاهما كانا من فئة الدم نفسها، سمعتنا المرأة المصابة نتحدث، فما كان منها الا ان طلبت نقل الدم الى الطفل بدلاً منها، ثم طلبت بعض المسكنات قبل ان تفارق الحياة.
تضيف سو "إن بعض الممرضات أصبن أيضاً، وبحلول ظهر اليوم التالي كان المستشفى بأكمله يعج بالجرحى، قرابة 3000 شخص قدموا الى المستشفى أكدوا أن المسلحين اقتحموا البيوت بعد خلع أبوابها وأطلقوا نيران اسلحتهم باتجاه العائلات. كان هؤلاء خائفين جداً بل مرعوبين، وكانوا يأملون البقاء في المستشفى لاعتقادهم أنهم سيكونون بأمان لوجود أطباء أجانب ومراقبي الصليب الأحمر الدولي. لكن اعتقادهم لم يكن في محله.
تصل سو الى يوم الثامن عشر من أيلول، تقول "بعد 72 ساعة من القتل وصلت دبابة الى المستشفى وأمر طاقمها الأجانب بالخروج منه تحت تهديد السلاح. عندها خفنا كثيراً لاعتقادنا انهم سيقتلون مرضانا بمجرد خروجنا من المستشفى، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن لنا مناقشة آلة حرب وكنا مجبرين على الخروج".
وتتابع سو "مع خروجي من المستشفى رأيت مجموعة من النساء والأطفال محاطين بالمسلحين، وبينما كنت مارة حاولت إحدى النسوة أن تعطيني ابنها لكن لم يكن مسموحاً لها ذلك فأرجعوه إليها... خشيت الأسوأ لأنني بعد أيام عدت أبحث عن المرأة وطفلها لكنني لم أجد أيا منهما".
وعما شاهدته خارج المستشفى تقول سو "كان تلك المرة الأولى التي نرى فيها ما يحدث خارج المستشفى وندرك أنه بينما كنا نسعف المصابين محاولين إنقاذ حياة بعضهم، كان سكان المخيم يقتلون، ويُجزر بهم، فيما كانت تترك جثثهم لتتعفن".
تسرد سو الكثير من المشاهدات وتصل في كلامها إلى إحدى العائلات الفلسطينية, تقول عنها "هذه العائلة من قرية قريبة من القدس، دمرت القرية, لم تعد موجودة، فوجدت العائلة نفسها في جنوب لبنان. قُصف جنوب لبنان فوجدت العائلة نفسها لاجئة في مخيم تل الزعتر. عام 1978 وبعد مجزرة تل الزعتر هربت العائلة نفسها الى مخيم شاتيلا. وحين بدأ إخلاء المخيم، قالت العائلة إنها اكتفت من التهجير وقررت البقاء في المخيم، وفي المجزرة قتل 27 شخصاً من أفراد العائلة ولم يبق سوى منير".
في الصورة أدناها منير، الطفل الذي كان يبلغ من العمر آنذاك تسع سنوات، حين قتل أفراد عائلته وقعت جثثهم عليه، ظن المسلحون أنه قتل، وحين غادروا المكان أحضره رفاقه إلى المستشفى، حيث عالجته سو.
في الصورة التالية, تتابع سو، هاجر جدة منير، كانت في الجنوب آنذاك وحين سمعت بأخبار المجزرة مشت المرأة ذات السبعين عاماً عشرين كيلومتراً باتجاه شاتيلا. وهناك علمت أن افراد عائلتها قتلوا. تنقل سو عن هاجر كلمات تندب فيها عائلتها:
"بيروت لقد أخذت مني كل ما لدي، أخذت مني حياتي، وها هو قلبي الميت ممد في شوارعك... كم أحسد من كان بجانب أطفالي حين ماتوا. هل تركتموهم يموتون عطاشى ام اعطيتموهم الماء ليشربوا؟
بعد أيام من المجزرة، تختم سو، "قدم عدد من الجنود الذين بقوا في المخيم
لتلقي العلاج بعد وقوعهم عن أحد أسقف المنازل أثناء محاولتهم اعتقال
فلسطينيين، قلت لهم انه لا يوجد أي طبيب لمعالجتهم وكان من السهل جعلهم
يصدقون ذلك لاعتقادهم أني مجرد ممرضة آسيوية لكن فجأة ربت احدهم على كتفي،
كانت تلك عزيزة، مديرة المستشفى، قالت لي أرجوك سو عليك ان تعالجي هؤلاء،
أعلم بما تفكرين... عائلتي عانت كثيراً وانا اود منك ان تفعلي ذلك كرمى
لنا، لقد أجبرنا على ترك القدس ثم كان الحصار وبعدها المجزرة، كل هذه
الجروح ما زالت تنزف لكن مبادءنا تقضي علينا أن نمنح الرعاية الصحية للجميع
بمن فيهم أعداؤنا".
كان هذاً بعضاً من مشاهدات الطبيبة البريطانية سو شاي آنغ في مجزرة صبرا
وشاتيلا، ومن بيروت تنتقل سو على صفحات كتابها الى فلسطين المحتلة عام 1987
وأخبار وشهادات عنوانها "الانتفاضة الأولى" ...