روبرت فيسك
صحيفة اندبندت - لندن 19/4/1996
الصحافي الانكليزي المعروف روبرت فيسك، والعامل في صحيفة "اندبندت" البريطانية، كان في لبنان عند بداية العدوان "الاسرائيلي" في نيسان من العام 1996.
وفور انطلاق المدافع والقذائف "الاسرائيلية" باتجاه لبنان، منذرة بعدوان واسع، توجه روبرت فيسك الى الجنوب اللبناني ليغطي وقائع الاحداث لصحيفتة الانكليزية، ولقد حوصر فيسك مع مئات الآلاف من الجنوبيين اللبنانيين آنذاك، حيث عمدت "اسرائيل" الى محاصرة الجنوب عن طريق البر والبحر والجو.
وخلال 16 يوما من الاعتداءات المستمرة، شهد روبرت فيسك، على الفظائع التي ارتكبتها القوات "الاسرائيلية"، ومن ضمنها بطبيعة الحال، مجزرة قانا التي راح ضحيتها اكثر من مائة قروي جنوبي كانوا يختبئون في مركز لقوات الامم المتحدة.
وهذه الوقائع فضلا عن مشاهداته الحية للمجزرة "الاسرائيلية"، ارسلها فيسك الى صحيفته في لندن، ونشرتها بتاريخ 19/4/1996، وهذا نصها:
كانت مجزرة، لم ار الأبرياء يذبحون بهذا الشكل منذ مجزرة صبرا وشاتيلا. اللاجئون اللبنانيون نساء واطفالا ورجالا مطروحون على الارض في اكوام، بعضهم بلا ايد او اذرع او سيقان، مقطوعي الرؤوس او منزوعي الاحشاء، عددهم يتجاوز المئة. ثمة طفل كان ملقيا بلا رأس.
لقد حصدت القذائف "الاسرائيلية" اجسادهم وهم راقدون في ملجأ الامم المتحدة، معتقدين بانهم في امان تحت حماية العالم. كان مسلمو قانا مخطئين كمسلمي Serbrnica في البوسنة.
امام بناء يحترق في مركز الكتيبة الفيدجية التابع للامم المتحدة، حملت فتاة جثة بين ذراعيها، كانت جثة رجل اشيب الشعر، عيناه تحدقان فيها، وراحت الفتاة تهز الجثة جيئة وذهابا، تندب، تنوح وتبكي فقيدها مكررة الكلمات ذاتها: "ابي، ابي".
وقف جندي فيدجي وسط خضم من الجثث، ومن دون ان ينبس بكلمة، رفع عاليا جثة طفل مقطوع الرأس. "لقد قال لنا "الاسرائيليون" منذ لحظات انهم سيتوقفون عن قصف المنطقة"، قال جندي تابع للامم المتحدة، وهو يهتز من الغضب: "هل من المفروض علينا ان نشكرهم؟".
في بقايا بناء مشتعل، وفي قاعة المؤتمرات للمركز الفيدجي كانت كومة اخرى من الجثث المحترقة. لقد شق اللهب طريقه عبر السقف ليحط في اجسادهم، حارقا جثثهم امام عيني. وحين مشيت نحوهم انزلقت فوق يد بشرية. اذا، لماذا قتل "الاسرائيليون" كل هؤلاء اللاجئين المدنيين - مائة وخمسة حسب اخر احصاء - ويستمرون في ارسال القذائف، خمس وعشرين قذيفة الى الناجين والجثث المنتشرة حولهم بعد مرور عشر دقائق من وصول الدفعة الاولى.
جندي فيدجي كان ينظر الى امرأة ميتة مطروحة امام قدميه، قال ببساطة: " "الاسرائيليون" يعلمون اننا هنا، لقد كان المكان مركزا لكتيبة الامم المتحدة لمدة ثماني عشرة سنة، وهم يعلمون ان هناك ستماية لاجيء لدينا". بالفعل كانوا على علم بذلك. "الاسرائيليون" يدركون ان خمسة آلاف ومئتي معدم، وصل الفقر بهم الى حد منعهم من الهروب الى بيروت، كانوا يحتشدون في مجمعات الامم المتحدة. ومن ناحية اخرى، فان المركز الفيدجي التابع للامم المتحدة معروف وبشكل واضح في خرائط "اسرائيل" العسكرية. اما مباني الامم المتحدة فهي مميزة بالجص الابيض والاسود الذي يكسوها والذي يعتبر علامة للامم المتحدة. واثناء الليل تضاء الانوار في هذه المنشآت. وما من شخص في جنوب لبنان يجهل مواقعها.
لقد كانت المذبحة التي اقترفتها "اسرائيل" ضد المدنيين في اليوم العاشر من اعتدائها الرهيب والذي سقط فيه مئتان وستة اشخاص حتى ليلة امس، مذبحة متعجرفة للغاية، وضارة للغاية، وما من لبناني سيسامح هذه المجزرة. فقد حدث هجوم على سيارة اسعاف يوم السبت، وهناك ايضا الاخوات اللواتي قتلن في يحمر يوم الجمعة، والطفلة ذات السنتين التي قطع رأسها صاروخ "اسرائيلي" قبل اربعة ايام. وفي وقت مبكر من يوم امس، ذبح "الاسرائيليون" عائلة مؤلفة من اثني عشر شخصا اصغرهم طفل في اليوم الرابع من عمره، وذلك عندما اطلقت طائرات مروحية الصواريخ باتجاه منزلها.
وبعد ذلك بوقت قصير، اسقطت ثلاث طائرات حربية "اسرائيلية" قنابل على بعد مئتين وخمسين مترا فقط من قافلة تابعة للامم المتحدة كنت بداخلها، وفجرت بيتا بكامله تطايرت اجزاؤه نحو ثلاثين قدما في الجو. جرى ذلك كله امام ناظري، وفي طريق عودتي الى بيروت ليلة امس لارسل تقريري عن مجزرة قانا، كانت هناك سفينتان حربيتان تطلقان النار على السيارات المدنية فوق جسر النهر شمالي صيدا.
يصاب كل جيش اجنبي بالاخفاق في لبنان. فمجزرة صبرا وشاتيلا التي قامت بها الميليشيات المتحالفة مع "اسرائيل" ضد الفلسطينيين عام 1982 اخفقت الغزو "الاسرائيلي" في العام ذاته.
العالم العربي لن ينسى تلك المشاهد المرعبة التي واجهتنا يوم امس. دماء كل اللاجئين كانت تجري جداول من مطعم مجمع الامم المتحدة حيث سعى المسلمون الشيعة الذين جاؤوا من قراهم الجبلية في جنوب لبنان الى الحماية بشكل مثير للشفقة بعد ان امرت "اسرائيل" بمغادرة المنازل.
سحب الجنود الفرنسيون والفيدجيون مجموعة اخرى من الموتى، كانوا في البطانيات او في الشراشف بشكل محزن، اذرعهم مطوقة حول بعضها البعض. ثمة جندي فرنسي يافع راح يتمتم ويقسم غاضبا وهو يفتح كيسا كان يرمي فيه ارجلا، واصابع، واشلاء من اذرع.
اثناء مسيرنا في خضم هذا الهول، اندفع حشد من الناس الى داخل المجمع. كانوا قوافل من صور. وبدأ هؤلاء بنزع البطانيات عن جثث امهاتهم وابنائهم وبناتهم وهم يصرخون عاليا "الله اكبر". ثم راحوا يهددون قوات الامم المتحدة: لقد تحولنا فجأة بنظرهم من قوات للامم المتحدة وصحافيين، الى غربيين، أي حلفاء "لاسرائيل"، واصبحنا هدفا للكراهية والحقد.
رجل ملتح راح يحدق فينا بعينيه البغيضتين، كان وجهه قاتما من الغيظ: "انتم اميركيون"، صرخ فينا. "الاميركيون كلاب. انتم فعلتم هذا، الاميركيون كلاب".
لقد جعل الرئيس كلينتون نفسه حليفا "لاسرائيل" في حربها ضد "الارهاب" واللبنانيون، في اساهم، لم ينسوا هذا. "اتمنى ان اتحول الى قنبلة لكي افجر نفسي وسط "الاسرائيليين" "، قال رجل عجوز.
اصوات يائسة تنطلق غير مسموعة والقنابل تهطل وبالا.
لقد سمعنا القذائف الصاروخية التي قتلتهم. فمن التقاطع فوق الطريق الى الساحل، ربما اربعة اميال الى جنوب قانا، كانت المدفعية "الاسرائيلية" عيار 155 ملم تطلق نيرانها فوق رؤوسنا ونحن ننتقل في قافلة للامم المتحدة من تبنين الى صور، كانت الساعة تشير الى ما بعد الثانية عصرا.
كانت "اسرائيل" تطلق النار على الجنوب اللبناني طيلة هذا اليوم. وكنت في عداد موكب انساني يقوده القائد ايمون سميث، وضابط من دبلن تابع للامم المتحدة، نمر على الطريق الساحلي، بعد الفطور بقليل، ابتعدت ثلاث طائرات حربية "اسرائيلية" عن اعيننا واسقطت ثلاث قذائف على بعد مئتين وخمسين مترا الى يميننا، وراحت ترش عربات الامم المتحدة بكتل من الحجارة. وحين اقتحمت الطائرة الثالثة المكان، تبع صوت الانفجار الذي ولدته، مشهد بيت يطير بكامله، بجدرانه، وبسقفه، ثلاثين قدما نحو السماء.
احتمينا خلف جدران موقع فيدجي تابع للامم المتحدة ثم تابعنا الرحلة بحذر شديد، ننقل معنا البطانيات، والماء، والغذاء الى اللاجئين، في المجمعات الايرلندية التابعة للامم المتحدة، والقذائف تئز فوقنا.
وفي طريق عودتنا سمعنا المدافع التي ستعطي معنى جديدا للاعتداء الذي سماه "الاسرائيليون" بشكل يتعذر تفسيره، والذي من غير ريب يندمون عليه اليوم وبعمق "عملية عناقيد الغضب".
ثمة انفجار كان صداه وكأنه ينم عن اطلاق صواريخ "كاتيوشا" من منطقة قانا. الا ان ذاكرتي تصر على ان هذا الصوت جاء خلال وليس قبل ان تطلق المدافع الثقيلة نيرانها ناحية قانا. لقد استطعنا سماع هبوط القذائف بضربات ثقيلة ونحن داخل عربتنا. كانت الساعة تشير الى الثانية والدقيقة العاشرة بعد الظهر، حيث اعلن الراديو في مقدمة العربة "مركزنا يتعرض للقصف"، صوت جندي فيدجي، تشوبه مسحة من القلق. ثم حصل تأكيد من مركز العمليات التابع للامم المتحدة في الناقورة وعاد الصوت الى السمع: "القذائف تسقط هنا الان".
سمعنا "الكاتيوشا" مرات عدة خلال اليوم وهي تطلق عبر الجبال. الا انه لم يكن ثمة اشارة اليها في خطوط الراديو، وفي واقع الامر، قد لا يكون العامل في قانا قد سمعها على الاطلاق.
انها الثانية والدقيقة الثانية عشرة بعد الظهر، ومركز عمليات الامم المتحدة يعود الى الاعلان: "نحن نتصل بقوات الدفاع "الاسرائيلي" "، من الواضح انه صوت لضابط ايرلندي. ولكن صوت الجندي الفيدجي عاد وكان يائسا هذه المرة: "هل تفهمون؟" صرخ عاليا: "انهم يطلقون القذائف علينا الان. المركز ضرب". وسمعنا صوت الضربات الثقيلة ذاتها، مصدرها الوادي، حيث انفجرت القذائف في قانا. ورجع صوت الفيدجي يائسا الى حد ان العاملين في مركز العمليات للامم المتحدة لم يفهموا قوله.
انها الساعة الثانية والدقيقة العشرون الان. الشمس عالية في وسط المساء، والرؤية حسنة. كنا لا نزال نستطيع سماع الصوت البعيد، القذائف والمدافع التي كنت اسمعها كانت بمعدل قذيفة كل خمس دقائق.
رجل لبناني تابع لقوة الارتباط التابعة للامم المتحدة جاء من المركز المشتعل في قانا وقال: "الناس تموت هنا، نحتاج الى المساعدة". ثم رد عليه مركز الناقورة: "المساعدة في طريقها اليكم، المساعدة في طريقها اليكم، المساعدة في طريقها اليكم". وسمعنا فرق الطوارئ Medevac التابعة للامم المتحدة تؤمر بالذهاب الى قانا مع 70 عاملا من هيئة الاسعاف، ومع كل سيارة اسعاف متوفرة "ميديفاك في طريقها الى قانا"، قال صوت، واعتقد انه من مركز العمليات: "لدينا جرحى، لدينا جرحى، مات ستة على الاقل". نظر الي القائد سميث ولم يقل شيئا. كلانا يعرف ان هناك ستمائة لاجيء في مركز الكتيبة الفيدجية لا بد انهم يموتون بالعشرات.
لدى وصولي الى صور متجها شرقا الى قانا، اعلنت غرفة العمليات التابعة للامم المتحدة ان "اسرائيل" قد امرت بوقف كل القصف عبر منطقة الامم المتحدة وسمحت للمساعدة بان تصل الى قانا. لم يكن هذا صحيحا. وبعد دقيقتين تقريبا اذاعت القوات الايرلندية التابعة للامم المتحدة من تبنين ان منطقة كتيبتهم تتعرض للقصف "الاسرائيلي".
وفيما عربتنا تجتاز بسرعة قصوى الطرقات المملؤة بالحفر والمؤدية الى قانا، كانت اصوات الضربات العنيفة بعيدة. وعندما اقتربنا من قانا، رأينا غيوما كثيفة من الدخان الابيض تتصاعد من المركز الفيدجي. وحين وصلنا وجدت عند البوابة مجموعة من اثار اقدام ملطخة بالدم، ثم سيل من الدم يجري من مبنى مهدم في الداخل.
اذا ما هو المبرر لحمام الدم هذا؟ نتساءل، "الاسرائيليون" يعلمون بان منشآت الامم المتحدة كانت هناك وبانها كانت تأوي اللاجئين، بل انهم كانوا يتصلون عبر مركز عمليات الامم المتحدة بالكتيبة الفيدجية.
كنت اسمع طوال الصباح مواقع الامم المتحدة في الجنوب اللبناني وهي تتلقى تهديدات "اسرائيلية" بشن هجمات جوية على مناطقها. وقبل يوم واحد فقط، تعين على القوات الايرلندية التابعة للامم المتحدة الانسحاب من قرية برعشيت بعد ان تلقى "الاسرائيليون" معلومات تفيد بان هذه القوات تأخذ مؤنا انسانية الى القرية.
ويوم امس قال لي الجنود الفيدجيون بانهم لم يتلقوا أي تهديدات "اسرائيلية" بشأن اطلاق القذائف الصاروخية. كل ما كانوا يعرفونه هو عندما جاءت الدفاعات الاولى لتكتسح ستماية رجل، وامرأة وطفل في منشآتهم.