عرض برنامج التحقيقات الرئيسي في القناة العاشرة الإسرائيلية، مساء أمس الأول، تحقيقا عن ظروف اتخاذ إسرائيل قرارا بالانسحاب في أيار العام 2000 من الجنوب اللبناني. وأوضح التقرير أن الانسحاب في الرابع والعشرين من أيار لم يكن وليد قرار مسبق وإنما فرضته ظروف الحزام الأمني وضغط «حزب الله». وأشار التحقيق الذي تضمن معلومات خاصة يكشف النقاب عنها للمرة الأولى إلى أن الإخفاقات في طريقة وآلية اتخاذ القرار في إسرائيل لم تتغير ولم تجر دراستها. وأوضح أن المشكلة تكمن في حقيقة أن قسما كبيرا من صناع ذلك القرار لا يزالون فاعلين في القرار الإسرائيلي الأمني ويكررون الأخطاء ذاتها تقريبا. ويمكن الإشارة ابتداء إلى أن بين أبرز من لعبوا دورا في الانسحاب على الصعيد السياسي كان إيهود باراك الذي خدم حينها رئيسا للحكومة. وعلى الصعيد العسكري يدور الحديث عن أشخاص مثل رئيس الأركان حينها شاؤول موفاز ورئيس الأركان الحالي غابي أشكنازي ونائب رئيس الأركان الحالي بني غينتس.
ويحاول التحقيق الذي تضمن شهادات لكثير من الساسة والعسكريين، إعادة قراءة الظروف ومقارنتها بين ما كانوا يقولونه حينها وبين ما يقولونه اليوم.
ويشير المعلق عوفر شيلح الذي أجرى التحقيق إلى أن الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني ينظر إليه اليوم تبعا للانتماء السياسي. فاليمين الإسرائيلي مقتنع بأن المجتمع الانهزامي تغلب على الجيش الإسرائيلي وقاده للانسحاب مما أضعف قدرته الردعية. وبالمقابل فإن اليسار الإسرائيلي يعتقد أن الانسحاب أنهى بؤسا استمر 18 عاما وأن زعيما قويا يعرف متى عليه أن يتراجع. أما الجيش الإسرائيلي فخرج من الانسحاب مكللا بالمجد لا لسبب إلا لأن جنديا إسرائيليا لم يجرح أثناء الانسحاب. وكل ما عدا ذلك غرق في بحر الأحداث التي وقعت منذ ذلك الحين.
ويقول شيلح إن الشيطان يكمن في التفاصيل. وتفاصيل ما جرى ويجري في لبنان لا يذكرها حتى الشيطان. ويعيد للأذهان خطاب موفاز بمناسبة انتهاء عملية الانسحاب وقوله: «إن هذا يوم تاريخي فقد أتم الجيش الإسرائيلي هذا المساء الانسحاب من لبنان وأعاد إلى الوطن جميع الأبناء سالمين».
ويشدد شيلح على أن قصة الانسحاب من لبنان بالغة الأهمية لأنها تنطوي على كل معالم فشل المنظومة السياسية العسكرية في إسرائيل: ارتجالية القرار، القطيعة بين الجيش والمستوى السياسي في كل ما يتعلق بالحسم، إضافة إلى الخلل في التنفيذ، وهي مسائل لم يرغب أحد في إخضاعها للتحقيق.
ويقول العميد تشيكو تامير الذي تولى لسنوات قيادة عدد من الأطر العسكرية في الشمال عموما وفي الجنوب اللبناني خصوصا، أن الانسحاب ما كان ينبغي أن يتم بطريقة «نترك فيها خلفنا معدات ونخرج كاللصوص». كما أن قائد القوات اللحدية العميل أنطوان لحد يستذكر الوعود التي أعطيت له حتى آخر يوم من أشكنازي وغينتس وموفاز بمواصلة الوقوف إلى جانب قواته.
ويوضح شيلح أنه بعد عشر سنوات على الانسحاب فإن الشركاء في تلك الخطوة يتحدثون اليوم بصراحة أكبر وهو ما يسمح بعرض الصورة كاملة.
وقال نائب رئيس الأركان السابق موشيه كابلينسكي إن «خوفي الأكبر هو أن ننسى ما جرى. أن يأتي أحد بعد عشرين عاما ويسألنا عما إذا كانت الحرب قد انتهت أم لا». ويؤكد شيلح أن قراءة وقائع ما جرى تشهد على أنها تحوي كل السمات التي تميز حتى اليوم قرارات المستويات العليا وطرائق تنفيذها.
ويستذكر كلام إيهود باراك في حملته الانتخابية في العام 1999: «افحصوني في تموز العام 2000. سوف نكون مع أبنائنا عائدين من لبنان». ويقول باراك حاليا إنه دائما وأبدا لم يجد أي منطق في البقاء في الجنوب اللبناني. غير أن مواقفه وأفعاله عمليا كقائد عسكري وكوزير لم تفصح عن هكذا موقف. بل انه كان يعارض كل انسحاب. ويوضح حاييم رامون، الذي كان وزيرا في حكومات حزب العمل وكديما، أن باراك كان يزعم على الدوام أن الانسحاب من لبنان هو نوع من التعاون مع حزب الله. موقفه تغير فقط بعد تغير المزاج الشعبي الإسرائيلي إثر كارثة المروحيات المتجهة إلى لبنان ومقتل عشرات الجنود وكذلك بعد إخفاق «شييطت 13» في أنصارية.
وكما قرار أرييل شارون بالانسحاب من غزة في العام 2005، كان قرار باراك من دون إعداد ومن دون تحضير. الأمر لم يتم التحضير له لفترة طويلة وهو قرار غريزي اتخذ من دون تعقل. فباراك في حملته الانتخابية اشترط لتنفيذ الانسحاب اتفاقا مع الأسرة الدولية. ولم ينتبه أحد إلى سقوط هذا الشرط مع تنفيذ الانسحاب. فقد نظر الجميع لإعلان باراك الانتخابي على أنه تعهد بالانسحاب خلال عام من الجنوب اللبناني وحتى من دون اتفاق. وصار الإعلان الانتخابي نوعا من التعهد الواجب الوفاء «بكل ثمن».
ورغم فشل المفاوضات التي كانت جارية مع سوريا أصر باراك على تنفيذ الانسحاب من لبنان. وقيد بشكل كبير الخطوات التي طالبت قيادة الجبهة الشمالية بقيادة غابي أشكنازي باتخاذها استعدادا لاحتمال الانسحاب من طرف واحد. وشدد كابلينسكي على «أنهم قيدونا ومنعونا من التخطيط ومن إشراك عدد أكبر في المداولات وفي نهاية المطاف فإن العمل الأركاني كان غير مرتب أبدا ولم نستعد لليوم التالي».
وقبل ذلك كان الجيش الإسرائيلي، وفق شيلح، قد تخلى عن أي عزم على تحقيق النصر على حزب الله. وأضيف لهذا إحساس بأنه والحال هكذا لا ينبغي لأحد أن يجازف.
يقول كابلينسكي: «السؤال الذي سألته عن أنه لا أحد يريد أن يكون القتيل الأخير في لبنان، أو أن لا يحدث أن يقع هذا القتيل عندي في لبنان حام طوال الوقت فوق رؤوسنا».
في الحادي والعشرين من شباط العام 2000 جرى أول اجتماع لهيئة الأركان لبحث الوضع في لبنان. قائد الجبهة الشمالية أشكنازي توقع ما سوف يجري. وقال إن ما سوف يحدد الصورة النهائية هو تصرف القوات اللحدية. وأمر رئيس الأركان شاؤول موفاز بالشروع بإخراج العتاد من لبنان. وبدأت عملية إخلاء الجنوب من معدات وأجهزة وضعت فيه طوال 18 عاما. وكان كل ذلك يجري تحت غطاء شديد من السرية. يقول موفاز «لم نكن نريد أن ينكشف موعد الانسحاب».
وخلال هذه الفترة جرى تضارب بين استعداد الجيش للانسحاب ورغبة باراك ليس في الانسحاب من طرف واحد. المستوى السياسي كان يبحث عن تسوية سياسية. المستوى العسكري كان يريد فقط الانسحاب. وعلى الأرض فهم الجميع أن القوات اللحدية ستكون العامل الذي يحدد موعد الانسحاب.
واعترف تشيكو تامير بأن هذه المسألة كانت حاضرة طوال الوقت في المداولات. ويشدد كابلينسكي على أنه كان يؤمن بأن القوات اللحدية هي الحلقة الضعيفة.
في منتصف أيار وجهت هيئة الأركان رسالة لباراك من أشكنازي يحذر فيها من احتمال انهيار القوات اللحدية قريبا. وهكذا سلم الجيش الإسرائيلي في إطار الاستعداد للانسحاب المزيد من المعدات وعددا من المواقع المتقدمة. وهكذا في تلك الفترة صارت القوات اللحدية في مواجهة مباشرة مع مقاتلي حزب الله، والجيش الإسرائيلي يدعم اللحديين من الخلف. وكانت قناعة بأن هذه صيغة مثالية.
ويشدد تامير «على أنني اعتقدت أن القوات اللحدية ستصمد إذا تركنا موقعا أو اثنين. ولاحقا تبين أنني كنت على خطأ». وقال ان المداولات كانت تدور «حول أي جهاز سنفجر وأي عمود سندمر ومتى نعود للبيت. وبدا لي أن الأمر مسيطر عليه».
لكن كما هي العادة. يقول شيلح ان أحدا لم يأخذ بالحسبان الطرف الثاني. وحزب الله لاحظ نقطة الضعف. وغير أسلوب العمل. ومن موقع الطيبة التي تم تسليمه للقوات اللحدية بدأ الخطوة غير المسيطر عليها التي قادت إلى الانهيار. وطوال هذا الوقت كان باراك يتحدث عن اتفاق. وفي اجتماع للمجلس الوزاري المصغر في 18 أيار تحدث عن وجوب الخروج باتفاق حتى تموز وفق القرار 425 وبدعم دولي. وعنى ذلك الانسحاب حتى من قلعة الشقيف سريعا.
وبعد يومين من ذلك في اجتماع للمجلس الوزاري المصغر ضغط أشكنازي على المستوى السياسي للانسحاب فورا. وقال لهم ان كل شيء يوشك على الانهيار. وأضاف انه يجب أن يتم الانسحاب بأسرع ما يكون. فكل يوم يمكن أن تقع أحداث خطيرة.
ويقول الوزير حاييم رامون: «تلقى أشكنازي ردا من المستوى السياسي يقول اننا نريد الخروج بتنسيق مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن. لقد كان هذا خطأ جسيما. بدلا من الانسحاب بشكل مرتب ومن دون إحساس بالهرب، تحول الخروج الذي كان على المستوى الاستراتيجي عملا إيجابيا إلى نوع من الهروب على الصعيد التكتيكي».
في الحادي والعشرين من أيار دفع حزب الله مدنيين لبنانيين نحو مواقع لحدية في القنطرة والطيبة. وفكر الجيش الإسرائيلي في إطلاق النار على المسيرات واستعادة المواقع بالقوة. لكن هذه الأفكار رفضت وسقط موقعا الطيبة والقنطرة. ومنذ تلك اللحظة صار مستحيلا منع انهيار بقية المواقع اللحدية. وأشار موفاز إلى أن القوات اللحدية تعرضت لضغط شديد من حزب الله وهو «ما قاد إلى تفكك عدد من هذه المواقع ووقعت عمليات فرار من قسم آخر من المواقع اللحدية».
ويعترف تشيكو تامير بأنه بعد انهيار موقع الطيبة «كان لا يزال عندي ثقة بإمكان مواصلة القوات اللحدية صمودها في المواقع الأخرى». ويشدد على أنه «لم يخطر البتة في بالنا أن نترك الطرف الثاني يسيطر في أي لحظة على تلك المواقع».
في 22 أيار، أي بعد يوم واحد من سقوط موقعي الطيبة والقنطرة، عقد اجتماع أركاني لتقويم الموقف بحضور رئيس الأركان وقائد الجبهة الشمالية. قادة الجيش أوضحوا أن الحزام الأمني ينهار ويجب الخروج فورا. باراك حتى ذلك الوقت كانت لديه أفكار أخرى. كرر باراك أمام الضباط رأيه بوجوب المحافظة على الحزام الأمني وتمكين المستوى السياسي من استنفاد مساعيه للتوصل لاتفاق بموجب القرار 425. وقال ان على الجيش الإسرائيلي منع انهيار الوضع في الحزام الأمني. ومعنى كلامه هو الصمود في الحزام الأمني خلافا للواقع الميداني.
وعاد القادة العسكريون إلى تل أبيب لحضور اجتماع للمجلس الوزاري المصغر. باراك تحدث عن الحاجة للصمود والانتظار حتى تموز. وعرض موفاز الورقة الرابحة. البديل للانسحاب هو إرسال ألف جندي إسرائيلي للجنوب اللبناني للحلول مكان اللحديين المنهارين والمجازفة بوقوع إصابات. وقال موفاز «عرضنا تعزيز تلك المواقع وإدخال عدة مئات من الجنود الإسرائيليين وربما أكثر أو بدلا من ذلك التوصية للحكومة الإسرائيلية بتقديم موعد الانسحاب. وفضلنا في ذلك الوقت الخيار الثاني».
وتقرر الانسحاب في وقت لم يكن رئيس الحكومة يرغب فيه. وبعد القرار انفرد باراك وموفاز في غرفة جانبية. وسأل باراك موفاز: ما العمل؟ رد موفاز: ننسحب يا رئيس الحكومة. سأل باراك: متى؟ رد موفاز: غداً.
وعلى الأرض بدأ الانسحاب في تلك الليلة. وبدأ الاضطراب على أعلى المستويات في الجيش الإسرائيلي. ووقعت مشاهد مذهلة. قال تشيكو تامير: اجتمعت مع جنودي في قلعة الشقيف وقلت لهم ان بانتظارنا عدة أسابيع من القتال. لكن أحد القادة قال لي: ألا تعلم أن الحزام الأمني لن يكون غدا».
باراك لم يكن قد حسم خياره بعد. وفي اليوم التالي في 23 أيار عاد إلى الشمال يعرض خططا. موفاز وصل أيضا وطلب من باراك أن «يحرر أشكنازي». وقال له ان على أشكنازي أن يخرج قواته الليلة.
ويشدد كابلينسكي على أن أشد ما كان يرعبه هو الذكرى من تلك الساعات. وقال انني تبادلت مع قائد فرقة هذه المشاعر.
وعرضت إسرائيل الانسحاب على أنه عملية ناجحة لسبب بسيط هو أنه لم تقع خلاله إصابات في صفوف الإسرائيليين، وكل ما عدا ذلك لا يهم.