الجيش الهارب وذيله بين ساقيه
(من ذاكرة التحرير)
في شهر شباط 1985 وجه حزب الله رسالته المفتوحة الى المستضعفين وقد جاء فيها:"من فهم عقائدي وتاريخي مؤداه ان هذا الكيان الصهيوني عدواني في نشأته وتكوينه وقائم على ارض مغصوبة، وعلى حقوق شعب مسلم... يجب محاربة "اسرائيل" حتى يعود الحق المغصوب الى اهله". والجدير ذكره ان هذه الرسالة اتت تلبية وانسجاماً مع الحكم الشرعي الذي اطلقه الولي الفقيه الامام الراحل الخميني (قده) والذي نص على وجوب الجهاد في سبيل اجتثاث الغدة السرطانية "اسرائيل" من فلسطين بأكملها.
هكذا انطلقت جبهة الحق والجهاد في وجه ما سمي "حرب شارون" على لبنان والفلسطينيين في مقابل ما سمي عام 1967 بحرب موشيه ديان لاحتلال القدس وكامل فلسطين. وربما لم يكن من باب الصدفة ان يشن العدو هذه الحرب والجنرال شارون بالذات يتولى امور وزارة الحرب، اذ البارز في حياته العسكرية منذ ان بدأ نشاطه الارهابي في صفوف "الهاغاناه" ثم المكافحة بالجيش الاسرائيلي، هو حقده الأعمى وعداؤه الشديد للعرب والمسلمين عموماً والفلسطينيين خصوصاً. وتجلى هذا العداء في وقت مبكر عندما قاد وحدة المظليين المسماة الفرقة 101 في مطلع الخمسينات وارتكب العديد من المجازر الوحشية ضد القرى الحدودية مع كل من الاردن وقطاع غزة من أبرزها مجزرة قبية، ومن ثم سنحت الفرصة مرة اخرى لشارون لممارسة هوايته الدموية هذه في مطلع السبعينات عندما تولى ما يسمى قيادة المنطقة الجنوبية فدمر قطاع غزة على رؤوس سكانه واعتقل آلاف الشبان في السجون الصحراوية، وصولاً الى العام 1982 حين بدا للجنرال المغامر، الذي كان يتهمه بن غوريون بالكذب والخداع والمراوغة، ان من السهل عليه ان ينتزع من حكومة مناحيم بيغن الموافقة الدائمة على كل خطوة عسكرية ينفذها جيشه في محاور القتال، من دون شرح الابعاد المحتملة لهذه الخطوات وانعكاسها على مختلف الصعد.
يومها وفي العام 1982 كان الغرور يشعل رأس شارون ناراً وحمماً حتى قيل آنذاك ان الجيش الاسرائيلي لا يحتاج الى اكثر من الفرقة الموسيقية لاحتلال لبنان، في مقابل المسلمات التي كانت شائعة في الاعلام السياسي اللبناني وهي ان "قوة لبنان في ضعفه"، وان "العين لا تقاوم المخرز"، وانه "اذا كان هناك من طرف لديه خيار بديل سوى الاستسلام لارادة المنتصر فليتفضل ويقدمه".
وشاعت ايضاً في الوقت نفسه مقولات "القبضة الحديدية" و"الارض المحروقة" و"العصا الغليظة" وما الى ذلك من أدبيات الترهيب والهزيمة، التي كانت تضخها قوى الارهاب الصهيونية وسائر القوى الفطرية والطفيلية التي خيل لها ان ثمار العمالة قد آن قطافها، في وقت كانت دوائر الاستراتيجية الشارونية تتجاوز لبنان لتصل الى حدود ايران وباكستان شرقاً والى اثيوبيا واريتريا جنوباً.
من الواضح ان عدوان عام 1982 كان قد حظي باجماع قومي تحت شعار "سلامة الجليل". إلاّ أن استقالة العقيد ايلي غيفاع، وهو قائد أحد الالوية المرسلة الى لبنان، تحت ذريعة انه "ليست لديه الجرأة على النظر الى أعين الاهالي الثكالى والقول لهم ان ولدهم سقط في عملية يعتقد انه كان في الامكان تلافيها" شكلت الحجر الذي القي في مستنقع الرأي العام الراكد والمأخوذ بأوهام الانتصارات السريعة وأحلام المكاسب الرخيصة، على غرار ما حصل في العديد من الحروب العربية الاسرائيلية السابقة، مثلما شكلت أيضاً أولى ارهاصات الهزيمة التي ما لبثت ان تكاملت ملامحها تباعاً مع تزايد العمليات الاستشهادية والنوعية التي نفذتها المقاومة الاسلامية، والتي أدت الى تداعيات عسكرية ومعنوية ونفسية دراماتيكية في صفوف الجيش الصهيوني تمثلت في مظاهر كثيرة منها تزايد أعداد المنتحرين من العسكريين الاسرائيليين، وتزايد عدد المتهربين من الخدمة، واتساع حركات الاحتجاج مثل حركة "هناك حدود" و"الامهات الاربع" و"جنود ضد الصمت" و"امهات ضد الصمت" وسواها، وقد كان لحادثة تصادم الطوافتين الاسرائيليتين في شباط 1997 أثرً بالغ في تسريع الانهيارات النفسية والسياسية لدى صانعي القرار الصهيوني من أجل الاقدام على شرب كأس الانسحاب والهزيمة المرة من القسم الاكبر من الاراضي اللبنانية في الرابع والعشرين من أيار عام 2000 ولم يكن باراك لوحده الذي قبل على نفسه ارتداء ثوب العار والاندحار، بل ان ارييل شارون ايضاً اصبح في عداد المؤيدين للانسحاب من طرف واحد، ومن دون اي شروط تفرض على لبنان او سوريا.
وهكذا تبين ان المجاهدين اللبنانيين قد صنعوا معلماً جديداً في تاريخ العرب والمسلمين في هذا العصر جدير بالاعتزاز والافتخار حتى ان المؤرخ العسكري الصهيوني "مارتن فان كريفيلد" اعترف بالقول: "انها المرة الاولى التي تخسر فيها اسرائيل حرباً. لكنها خسرتها في اليوم نفسه الذي بدأتها فيه قبل 23 سنة... ان اسرائيل مثل الاميركيين في فيتنام والروس في افغانستان، لم تستطع الانتصار على المقاومة المدعومة من السكان".
ولم يخطئ "شلومو بروم"، الجنرال في الاحتياط، والباحث في "مركز جافي للدراسات الاستراتيجية" التابع لجامعة "تل ابيب" حين رأى "ان الانسحاب الاسرائيلي قد يعزز لدى بعض الاعداء فكرة هشاشة اسرائيل".
كما ولم يخطئ "دان مريدور" رئيس لجنة الخارجية والامن في الكنيست حين اعتبر ان "صور الانسحاب مهينة بالتأكيد، لكن "اسرائيل" انتقت الخيار الوحيد المنطقي".
اما الصحافي "عوفر شيلاح" فاعتبر ان المشكلة التي واجهها ما يسمى قائد المنطقة الشمالية اللواء عميرام ليفين "هي مشكلة كل قائد عسكري على مدى السنوات الخمس عشرة الاخيرة، فمنذ وقت طويل لم يعد جيش الدفاع هو جيش الشعب، وليس جيش الحكومة، لا بالمفهوم الكلاسيكي ـ حيث ترسم الحكومة الاهداف ويقوم الجيش بتنفيذها ـ ولا بالمفهوم الاسرائيلي المعروف حيث اعتاد الجيش القيام بالمبادر"... وتابع شيلاح يقول:"اننا ندفع في لبنان وفي اماكن اخرى ثمن خطأ بدأ منذ 14 عاماً... وكان في بؤرة هذا الخطأ مجموعة من كبار الضباط، الذين ظلوا قادة وزعماء، جيش لمدة جيل بأكمله، والذين وافقوا سواء عن وعي أو كسل أو إهمال، على وضع الجيش في مواقف لا يستطيع ان ينتصر فيها".
ومثل هذه المقالات انما تكشف لنا بوضوح حجم الهزيمة النكراء التي كانت تنخر في عظام المحتل وروحه الساقطة من الداخل، كما وتكشف اهمية الانتصار الذي أدار رؤوس المحتلين وانزلها الى الارض معترفة بعدم مشروعية اي اهداف مزعومة من الوجود الاحتلالي في لبنان، ولا الحرب على اراضيه، وقد وصل القهر المعنوي لدى الكاتب الى حد جلد الذات عندما قال:"ان اطلاقنا تعبير سلامة الجليل على ما تم في لبنان من جانبنا انما هو بمثابة ممارسة الدعارة من أجل المحافظة على العذرية، ومن أجل عذرية الجليل ينتهكون عذريتنا طوال الوقت".
وفي مقال تحت عنوان جراحة متقدمة كتب "افرايم دافيدي" في "دافار" يقول: "لماذا نسمي كل هذا ارهاباً؟ حزب الله الذي يشبه منظمة التحرير في يوم ما، هو منظمة سياسية ذات جذور عميقة في لبنان يشن على فترات حرب عصابات ضد جيش الدفاع ويستخدم وسائل ارهابية، ولدى حزب الله موقف معلن وهو انهاء الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان. ألم يحن الوقت للحوار المباشر مع حزب الله، عن غير طريق الوسيط السوري او اللبناني او الاميركي؟ ألم يحن الوقت كي نحاول الوصول الى اتفاق مع حزب الله الذي تسانده ايران؟". ومثل هذه التساؤلات ان دلت على شيء فإنها تدل على نتائج حرب الاستنزاف المكلفة التي خاضتها المقاومة الاسلامية بكل اصرار وصدق واستقامة والتي في طليعتها سقوط الروح المعنوية الصهيونية وانهيار ما سمي بقدرات الردع الخاصة بالجيش الاسرائيلي، وتلاشي ما كان يسمى زوراً وتضليلاً بالمنطقة الامنية التي تحولت حسب رأي "أوري افنيري" الى ما يشبه "النمر الذي امتطيناه وخشينا النزول من فوقه حتى لا يفترسنا". وتساءل افنيري:"هل يوجد شيء لم تجربه "اسرائيل" ضد منظمة حزب الله؟ القصف والضرب بالمدافع والقاء القنابل وقتل الزعماء بل وقتل أُسر هؤلاء الزعماء واختطاف القادة ووصل الامر الى حد طرد مئات الالوف من الشيعة من قراهم بواسطة القصف العنيف... ان الحل يتطلب شجاعة وخيالاً واصراراً، أي ان ننزل من فوق ظهر النمر. أي ان ننسحب من جنوب لبنان".
أما صحيفة "هآرتس" فاعتبرت ساخرة ان عملية انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان من دون اصابة أي من الجنود الاسرائيليين، قد شكلت النجاح الوحيد في هذا الصراع الذي استمر 18 سنة، واعتبرت ان الاف الساعات التي بذلها الجيش بجميع أذرعه القتالية والاستخباراتية ذهبت سدى وسرعان ما تحطم كل ذلك ووقع الكثير من المعدات القتالية والوسائل الالكترونية في ايدي مقاتلي حزب الله.
أما المشهد الاخير الذي سجلته الصحافة الاسرائيلية للهزيمة الاسرائيلية فكان يلخصه المصطلح الجديد الذي دخل صفحات قاموس الجيش الاسرائيلي وهو مصطلح "الجيش الهارب وذيله بين ساقيه الخلفيتين" وذلك للتعبير عن النهاية المناسبة لحرب ظالمة شنتها "اسرائيل" وعملاؤها في لحظة من لحظات جنون العظمة فسقطت العظمة وبقي جنون الهزيمة.
احسان مرتضى
جريدة الانتقاد - العدد الخاص بعيد المقاومة والتحرير 2001